جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

دبلوماسية المسافة الواحدة

كان السياسي الأذري يستعد لمغادرة الفندق من مدينة السلام «شرم الشيخ»، عائداً بعد قضاء إجازته إلى عاصمته «باكو» للمشاركة في مؤتمر قمة عدم الانحياز، الذي تترأس بلاده أذربيجان هذه الدورة، كان يتحدث العربية بطلاقة، صافحني ثم سألني عن وظيفتي، عرف أنني أعمل بمهنة الصحافة، تبادلنا الحديث قرابة 30 دقيقة، حتى وصلت السيارة التي تقله إلى المطار. بدأ الحديث وانتهى حول الحرب الروسية - الأوكرانية.
سألته بمناسبة ترؤس بلاده لمؤتمر قمة عدم الانحياز، هل فكرة عدم الانحياز التي تأسست عام 1961 لا تزال قابلة للتحقيق على أرض الواقع، خصوصاً ما يتعلق بالحرب الروسية - الأوكرانية؟
بردّ الواثق أكد لي أن العالم أجمع في حاجة ماسة لاستعادة وتفعيل روح وميثاق وهدف وأدوات هذه المنظمة، التي لعبت دوراً كبيراً إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، أي بين حلف الناتو الذي تأسس عام 1949 وحلف وارسو الذي تأسس عام 1954.
ثم واصل؛ دعني أتجول بك في ذاكرة التاريخ، لأتوقف أمام دور هذه الحركة ونجاحها في الحفاظ على مصالحها، وخلق مساحة فاصلة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وبين الاتحاد السوفياتي وحلفائه، وهو ما منح دول عدم الانحياز القدرة على الحفاظ على استقلالها، وسيادة قرارها، دون الارتماء في أحضان هذا المعسكر أو ذاك.
قاطعته؛ لكن هل تسمح الحرب الروسية - الأوكرانية الدائرة الآن لدول العالم بالوقوف على الحياد انطلاقاً من مفهوم عدم الانحياز؟ وهل بات طرفا الحرب يقبلان وقوف هذه الدولة أو تلك على مسافة واحدة من المعسكرين الروسي والغربي؟
صمت قليلاً ثم قال؛ يا سيدي قرار الوقوف على مسافة واحدة، هذا ملك حصري لأصحابه، وبرغم أن طرفي الحرب يسعيان إلى جذب أكبر عدد من الدول والشعوب إلى معسكريهما، فإن القرار كما قلت لك، يتعلق بالدول نفسها التي تريد عدم الانحياز لطرف على حساب الآخر، ففي ستينات القرن الماضي، وصلت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى حافة الاستخدام النووي في الأزمة الكوبية عام 1963، ومع ذلك استطاعت بعض الدول أن تحافظ على استقلال قرارها، وعدم الوقوع في فخ الانحياز لصالح هذا أو ذاك، ومن ثم، فإن تكرار نفس التجربة أمر قابل للتطبيق مرة ثانية، ناهيك عن أن صراع المصالح يفرض على الدول تبني مقاربات سياسية تقوم على حسابات المصالح الوطنية التي يهددها الانحياز لطرف دون غيره.
قلت له معك حق، خصوصاً إن نظرنا إلى خرائط العالم، يتأكد لنا أن الجغرافيا السياسية تميل إلى عدم الانحياز، في ظل تركيبة معقدة ومتشابكة منذ نهاية الحرب الباردة، وانهيار جدار برلين الذي غير موازين القوى، فلو نظرنا إلى مصالح عدد من الأقاليم في العالم، فسنجد أنها تتوافق بالضرورة مع عدم الانحياز لأي طرف، فلو توقفنا أمام المنطقة العربية والخليجية، نجد أنها استطاعت أن تمارس نسخة جديدة من حركة عدم الانحياز، ونجحت في دبلوماسية الوقوف على مسافة واحدة، عبر مجموعة من المسارات والخطوات، تمثلت في الدعوة إلى اجتماع عاجل لجامعة الدول العربية، بعد اندلاع الحرب بأسبوعين فقط، وجرى خلالها تشكيل لجنة الاتصال العربية التي زارت موسكو ووارسو، والتقت بوزيري الخارجية الروسي والأوكراني، وهو ما أعطى رسالة مبكرة بأن العالم العربي سوف يكون جسراً للتواصل بين الطرفين، وليس منحازاً لزاوية على حساب الأخرى، فضلاً عن مبادرة السلام التي دعا إليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر المناخ (Cop 27)، التي طالب فيها بالنيابة عن العالم، بالتدخل لوقف الحرب الروسية - الأوكرانية، واللجوء إلى طاولة الحوار والمفاوضات والحلول السياسية لإنهاء الخلافات بين الطرفين، وأضيف لك أيضاً الدور الكبير الذي قامت به كل المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، في الإفراج عن عدد كبير من أسرى الجنود الروس والأوكرانيين، ناهيك عن إرسال الدول العربية لمساعدات مدنية للمتضررين من هذه الحرب، فالمنطقة العربية والخليج ينظران إلى الحرب باعتبارها أسوأ طريقة لتسوية الخلافات بين الدول.
نظر إلى ساعته، الوقت لا يزال متاحاً، واصل حديثه مؤكداً كلامه، ثم أضاف أن هناك أقاليم أخرى في العالم رفضت خيار الانحياز في هذه الحرب، مثل كثير من الدول الآسيوية، ودول أميركا اللاتينية وأفريقيا، فعلى سبيل المثال نجد أن دولة آسيوية كبيرة مثل الهند لا تزال تحتفظ بعلاقات قوية مع معسكري الحرب، ففي الوقت الذي أدانت فيه نيودلهي فكرة الحرب، رفضت الانضمام إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، كما أن هناك دولاً كثيرة في أفريقيا وأميركا اللاتينية اتخذت من عدم الانحياز مساراً ونهجاً وطريقاً للتعامل مع طرفي الحرب، فهذه الدول صوتت في مجلس الأمن ضد ضم روسيا للمناطق الأربع «لوجانيسك، ودونيستك، وخيروسون، وزابوروجيا»، لكن في الوقت نفسه رفضت كل الضغوط الغربية لفرض عقوبات على موسكو، بل رفضت طرد روسيا من الأمم المتحدة أو فقدانها لمقعدها الدائم في مجلس الأمن، هذا التعاطي والتفاعل مع الحرب من قبل العرب والأفارقة والآسيويين وأميركا اللاتينية إنما يشكل لنا صورة مفادها أن كل هؤلاء قادرون على الإحياء الواقعي لفكرة ومبدأ عدم الانحياز، وأن هذه الدول والشعوب لديها أدوات ومقدرات الانتقال إلى الحياد الإيجابي، القائم على الدعوة الصادقة إلى وقف هذه الحرب، التي يزداد تأثيرها السلبي يوماً بعد يوم على خرائط العالم من دون استثناء. وليس رغبة وقدرة حقيقية على الحياد السلبي فقط.
هنا وصلت سيارة السياسي الأذري التي تصطحبه إلى المطار. أنهى كلامه. صافحني بجملة قاطعة «لا بديل عن دبلوماسية المسافة الواحدة».