شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

سوريتان

جمعتني الظروف مؤخرا بسوريتين؛ إحداهما تسكن دمشق وتنتظر الخلاص من نظام الأسد بفارغ الصبر ومهما كان الثمن، والثانية أرغمتها الظروف على ترك أهلها والإقامة في لندن. هي ليست بالضرورة مع الأسد لكن القلق يأكلها على مصير بلادها إذا ما رحل النظام على فظاعة وبشاعة جرائمه.
مررنا بهذه المحنة في العراق، وربما لم نخرج منها بعد، وما زلنا نسأل أنفسنا أيهما أسوأ، أو ربما أهون؛ أمان الطاغية أم فوضى الحرية؟ والإجابة لا تزال مبهمة، حتى مع مرور 10 سنوات على سقوط صدام حسين.
خبرنا الغزو والسقوط والفوضى والديمقراطية والمحاكمات والقتل والسيارات المفخخة والجثث مجهولة الهوية والطائفية والهجرة واللجوء السياسي، بل وحتى عودة شبه الديكتاتورية الآن. لا داعي لسرد تفاصيل أغلبنا يعلمها. لكن لنتخيل افتراضا لو أن كل ما حدث لم يحدث، وما زلنا في السجن الكبير ولم نخرج إلى الغابة بعد، وصدام ما زال حيا يُرزق وفي سدة الحكم؛ فكيف يا ترى كانت ستكون حياتنا؟
التكهّن صعب، لكني سأفترض أن عنصر الأمن بمعناه الواسع سيكون متوفرا نوعا ما. وبالأمن هنا لا أعني غياب السيارات المفخخة والميليشيات والمسلحين من الشوارع، بل أن يخرج المواطن من منزله صباحا ويعلم أنه سيعود إليه لاحقا آمنا مطمئنا وهو على قيد الحياة، لا أشلاء ولا جثث مجهولة الهوية مرمية على قارعة الطريق، أو أن يختطفه مجهولون، وربما يختفي أثره إلى الأبد.
لكن بصرف النظر عن الأمن؛ ماذا عن الصحة والتعليم والقضاء والكهرباء والاقتصاد وغيرها من العناصر الأساسية الأخرى التي تضمن للإنسان العيش بكرامة ومستوى لائق؟
لا أفترض أن صدام سيكون قد تصالح مع الغرب بأي شكل من الأشكال، وبالتالي أفترض أن الحصار الاقتصادي كان سيبقى مفروضا على الشعب العراقي، ورواتبنا بالكاد تسد رمق العيش. وأفترض أن العراق كان سيبقى دولة تسبح ضد التيار، معزولة و«مارقة».. حالها حال كوريا الشمالية وإيران الآن؛ جزء من محور الشر، وشعب لا يعرف ما الذي يدور حوله في العالم الخارجي.. لا اتصال ولا لقاء، نسيه الزمن ونسوه هم أيضا. حياة رتيبة لا إنترنت ولا جوال ولا ستلايت، تدور في فلك قناتين تلفزيونيتين؛ واحدة تديرها الحكومة والأخرى نجل الرئيس، نرى فيهما أخبارنا و«منجزاتنا» ولا نعرف أخبار الآخرين، وجل أمانينا السفر إلى الأردن، أما الوصول إلى بيروت فحلم بعيد المنال.
لنكن صادقين مع أنفسنا؛ هل بإمكاننا العودة إلى تلك الأيام؟ نجتر الساعات والسنين لا حلم ولا مستقبل، يكاد اليأس يقتلنا بانتظار أي تغيير دون بارقة أمل في الأفق.. يحيطنا البؤس والفقر والعوز وننتظر عون الآخرين.
ماضينا، على الرغم من أمنه، لم يكن ورديا زاهيا ولا حلما رائعا، بل قاتم مثل حاضرنا، وهما ثقيلان مثل أيامنا هذه، فالاثنان خياران أحلاهما مر.
لكن لا عودة للوراء مهما كان، ليس لأنه اختيارنا، بل لأن عقارب الساعة لا تعرف إلا التقدم إلى الأمام. وأيام صدام والقذافي لن تعود، وأيام أشباههما من الأسد وغيره باتت على وشك الانقضاء، لأن عصرهم آخذ بالأفول، وصفحتهم ستُطوى عاجلا أم آجلا. فزمن السباحة عكس التيار ولى.