أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

مشروعنا القومي الواجب.. «المواطن المصري الجديد»

يرى بعض المتفائلين أن مصر بإمكانها عبور عنق الزجاجة الخانق الذي انحشرت فيه منذ عقود باتباع حلول بسيطة وممكنة؛ فقط مع كثير من الإخلاص والتفاني.. بينما يرجح كثير من المتشائمين أن مشكلات مصر بلا حلول آنية منظورة، ويذهب بعضهم شططا إلى حد أن مصر تحتاج إما إلى معجزة إلهية، أو كارثة طبيعية، لكي تستفيق من ثباتها الذي طال.
وفي جلسة عصف ذهني مع مجموعة ممن يمكن تسميتهم قادة الجيل الأوسط؛ وهم رهط من الشباب المنفتح فكريا في مختلف مجالات الحياة، كثير منهم تلقى تعليما أو درجة علمية غربية، وكلهم على اطلاع موسع بآخر التطورات العلمية والاجتماعية في العالم.. خرجنا بـ«خارطة مستقبل» قد تحمل طوق النجاة لهذا البلد المريض.
الفكرة ربما ليست جديدة.. ولا تحمل أثرا مباشرا على الجيل الحالي.. لكن، كل الأمم التي سعت سابقا للنهضة من كبواتها لم تنتظر أن يجني من يبذرون بذور تلك النهضات ثمارها.. إنما وضعتها لمستقبل بلادها وأولادها.
المسألة ببساطة هي القفز على العصر الحالي بأكمله؛ وتركه لمن فيه من بشر ليتعامل مع مشكلاته المزمنة كما اتفق.. يحلها، يبتلعها، يهضمها، ينساها.. فليفعل ما يرى.. لكن الأمل هو في الجيل الذي لم يولد بعد لإنقاذنا وإنقاذ مستقبل مصر.
أولى خطوات الفكرة هي تأسيس هيئة منفصلة كليا عن كل مؤسسات الدولة تتبع مباشرة رئاسة الدولة.. وتخضع لها كل مقدرات هذا البلد، كونها مشروعا قوميا لتأسيس مواطن الغد الجديد.
تقوم هذه الهيئة، المنتقاة وفقا لمعايير جودة لا تنازل عنها، باختيار 1000 خريج (على سبيل المثال؛ لا الحصر) من خيرة الشباب في مختلف المجالات؛ وهم كثر بالمناسبة.. وإدراجهم في تدريب مكثف لمدة عامين - قد يشمل ابتعاثا خارجيا - على أحدث أساليب التدريس في كافة المجالات لتكوين نواة «معلمي المستقبل» لـ«مواطني المستقبل».
وفي غضون فترة التدريب، تعمل الهيئة على إنجاز منهج دراسي متكامل على أحدث مستوى فقط لمرحلة ما قبل التعليم الأساسي (الحضانة)، مع تخصيص آخر ستة أشهر لتدريب المعلمين على التعاطي مع المنهج وهضمه بصورة ممتازة.
بعد انتهاء البرنامج التدريبي، يتم اختبار المعلمين؛ ولا مانع من أن تكون لجان الاختبار من خبراء تعليم غربيين، من بريطانيا وأميركا والدول الاسكندنافية واليابان، لتحقيق المنشود في الابتداء من حيث انتهى الآخرون. ثم يوزع الألف معلم على 200 مدرسة بجميع أنحاء الجمهورية في مرحلة الحضانة، بواقع خمسة معلمين للمدرسة أحدهم لتعليم العربية وآخر للغة الأجنبية وثالث للرياضيات ورابع للعلوم وخامس للتربية البدنية.. على أن يكون الجميع مسؤولا عن تدريب النشء على استخدام التكنولوجيا بأحدث ما وصلت إليه.
في خلال العام الدراسي الأول؛ تكون الهيئة قد عملت على إتمام منهج السنة التالية؛ على ذات الأسس والمعايير.. كما تقوم بإعداد 1000 معلم جدد على ذات النمط لتسلم مقاليد الدفعة التالية من الأطفال.
وفي نهاية العام؛ ينتقل التلاميذ إلى المرحلة التالية؛ ومعهم معلموهم؛ الذين تدربوا خلال الإجازة الصيفية على منهج العام التالي.. وهكذا حتى نهاية التعليم المدرسي.
تستغرق هذه الخطة نحو 14 عاما؛ سنتين للحضانة، ست سنوات للمرحلة الابتدائية، ومثلها للمرحلتين الوسطى والثانوية. وفي خلال السنوات الست الأخيرة، تعمل الهيئة على برنامج مواز في مرحلة التعليم الجامعي، حتى يتسلم الجيل الجديد من مدرسي الجامعة قرينهم من خريجي مدارس المستقبل.
في خلال 20 عاما، يكون المشروع قد أنجز وأتم دورته الأولى بنجاح، مع استمرارية روافده في إمداد العجلة بطاقة لا تنضب؛ وتتطور دائما - وهو الأهم.
من مميزات هذا المشروع التقدمي - بحسب خبراء جيل الوسط - أنه لا يتطلب «نسف الواقع»، ولا ميزانية لا طاقة للدولة بها من أجل تغير فجائي حاد لا طاقة لنا به في المجتمع. كما أنه - وفقا لعلوم الحساب - سيسير جنبا إلى جنب مع الواقع، فالموظفون الحاليون في كافة القطاعات سيستمرون في حياتهم الوظيفية إلى نهايتها؛ حين يتسلم منهم الجيل القادم مقاليد الأمور للتحول بالدولة من شكل المعاناة إلى النهوض الحقيقي.
أحد الخبراء، وهو متخصص بعلوم الاجتماع، أشار إلى ملحوظة جيدة، وافقه عليها الجميع.. قال إن هناك فائدة خفية ستحدث تطورا موازيا عند تطبيق المشروع، موضحا أن التلميذ الصغير سيؤثر حتما في أهله بالمنزل إيجابا.. فالطالب عندما يعود إلى أسرته سينقل إليهم جزءا كبيرا من القيم الجديدة التي تعلمها. مثلا، سيطالب الطفل أهله بعدم إلقاء القمامة في الشوارع، لأن ذلك سلوك غير حضاري. سيطالب والده بالتوقف في إشارة المرور. سيحترم ذوي الاحتياجات من دون انتقاص. سيفرض على مجتمعه أن الكذب مجرم، ليس خوفا من عقاب، لكن لأنه لا يفضي إلى مكسب.
سيكون لدينا «سفير نوايا حسنة» في كل منزل بمصر.
تحملت مصر وأبناؤها الكثير والكثير مما لا يطاق.. فدعونا نقدم تضحية بسيطة من أجل أن يحقق أبناؤنا ما فشلنا فيه.. ربما يعوضنا ذلك عن وطن افتقدنا فيه - رغم عشقنا له بكل ما فيه من مساوئ - أبسط ملامح المواطنة... ربما ما زال الأمل هناك.