إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

من كربلاء إلى مسرح الشمس

حين جاء إلى باريس، قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لم يكن يعرف سوى أنه يعشق الفن، ويريد أن يتزوج الممثلة آني جيراردو. واليوم يعمل سمير عبد الجبار ممثلاً مع مسرح الشمس. الفرقة الشهيرة التي تديرها المخرجة العالمية أريان منوشكين. شاهدناه في مسرحية «جزيرة الذهب» التي عرضت لأكثر من سنة. يتحرك الممثلون على الخشبة الشاسعة مثل غزلان رشيقة، يشيّدون الديكور ويتلاعبون به ويهدمونه في ثوان.
فتح سمير عبد الجبار عينيه على الدنيا في بيت جدّته الملّاية هدية في كربلاء. امرأة ذات صوت شجيّ تندب في المآتم فتذيب قلوب السامعات. إنه لا يعرف بالضبط تاريخ ميلاده. أعطوه هوية شقيقه الذي كان قد توفي قبل ولادته. وما بين الشارع والتكيات الدينية ولدت هوايته الفنية. أراد أن يصبح رادوداً، على طريقة أمه وجدّته، أي مُنشداً في المجالس الحسينية. لكن حسّ الفكاهة لديه لم يركب على البكائيات.
في المدرسة كانوا يسمونه ابن الفرّاش، أي الساعي. وهو الطبّال في استعراضات الكشّافة، والخطيب في مهرجانات الخطابة، والقافز بالزانة لأربعة أمتار في المسابقات الرياضية. أغراه دور الملك في عرض للمسرح المدرسيّ، لكن المدير استكثر أن يكون ابن الفرّاش ملكاً. أوجعه التمييز الطبقي، فانتقل إلى بغداد ودخل معهد الفنون الجميلة. جاء إلى فرنسا لاستكمال دراسته. من يحصل على «الدكتوراه» يعود بسيارة مرسيدس وله قطعة أرض من الدولة.
عاش في باريس كالممسوس. يدمن مشاهدة المسرحيات يومياً ويقصد مهرجان «أفينيون» العالمي كل صيف. يجلس في الصفوف الخلفية مع منظار مكبر لرؤية ملامح الممثلين. يعود إلى غرفته ويسجل في دفتر كل ما رآه، من رفع الستارة حتى إسدالها. لديه اليوم أكثر من 150 دفتراً. اشتغل بواباً في المصعد الشمالي لبرج «إيفل» وتسجّل في «السوربون». سبع سنوات من الكدّ والسهر. كتب أطروحته وأخرج أفلاماً بكاميرا صغيرة، وأسس فرقة «قوس قزح» المسرحية.
خلال ذلك كانت نيران تشتعل في بلده وأشقاؤه يصبحون رماداً للحروب. ما قيمة شهادته أمام تلك الأهوال؟ كان قد حضر عرضاً لمسرح الشمس في «أفينيون» وأصيب بصعقة. بكى من روعة الإخراج والأداء الديناميكي للممثلين ووقع الموسيقى الحيّة. لا يخجل الفنان من دموعه في حضرة الجمال. كتب رسالة إلى المخرجة يطلب قبوله في دورة بمسرحها. بعد ستة أشهر جاءه الجواب. مقبول في دورة لعشرين يوماً. وجد معه ثلاثمائة متدرب. تبادلوا الأدوار ورقصوا وغنوا وتعاركوا واستبقت المخرجة ثلاثة، أحدهم سمير عبد الجبار.
سألته أريان منوشكين عن سبب اختياره مسرح الشمس. أجاب: «لكي أنسى كل ما تعلمته في السابق». عانقته وصار عضواً في طاقمها. والعشرون يوماً امتدت لست عشرة سنة. وها هو يستعد لاحتفال الفرقة بمرور ستين عاماً على تأسيسها. يقول إنه محظوظ للعمل مع مخرجة وكاتبة ملتزمة مثلها. مع أنها فنانة حادة سليطة اللسان، ترمي الممثل بأي شيء في يدها إذا أساء لمبادئ مسرحها. وهي أيضاً الإنسانة الكريمة التي تتعامل بأمومة، وقد ربطتها صداقات بإنديرا غاندي في الهند، والدالاي لاما في التيبت، وسيهانوك في كمبوديا.
سافر سمير عبد الجبار مع مسرح الشمس إلى كل القارات ووقف على أهم المسارح. بقي الولد الكربلائي الذي يصارع العالم بضحكة. وفي مسرح «اليد الذهبية»، تصادف ذات يوم بعيد أن التقى النجمة آني جيراردو. حكى لها عن حبّه المدفون في صدره وسألها: «هل تتزوجينني؟». نفخت دخان سيجارتها وقالت بصوتها الأجش: «لمَ لا؟».