سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

بين قمتين إحداهما كانت في أبوظبي والثانية في دبي

إذا تناهى صوت أم كلثوم إلى سمع المواطن الإماراتي في أي وقت، فإنه يذكّر على الفور بيوم استقلال الدولة، وإعلان قيام الاتحاد بين الإمارات السبع قبل أكثر من نصف قرن.
ولماذا لا يذكر ذلك، بينما العلاقة بين صوت سيدة الغناء العربي، وبين يوم الإعلان عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة هي من نوع العلاقة الشرطية التي يتحدث عنها أهل الاختصاص في علم النفس، ويؤصلون لها باستمرار في الكتب والمحاضرات؟!
يتحدثون عن علاقة بهذا الاسم، ويقولون إنها تجعل الشخص يذكر شيئاً لم يكن في باله ولا في خاطره، إذا بدا أمامه ما يجعله يذكر ويتذكر تلقائياً، وبغير وعي منه، ولا قصد، ولا تعسف في الاستدعاء والتذكر. إنه فقط يرى الشيء فيذكر ما هو مقابله في الحال، وقد يدهشه أن تتم هذه العملية كلها آلياً في داخله دون إرادة واعية من جانبه، وبغير أن تجري الأمور على ما يحب، ويخطط، ويرسم من خطوات.
كان ذلك في السادس والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1971، وكان اليوم يوم جمعة، وكانت السيدة أم كلثوم قد وصلت فيه إلى أبوظبي، وكان ذهابها بناءً على دعوة من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم إمارة أبوظبي في ذلك الوقت البعيد.
ورغم أن مستشاره الصحافي كان قد حمل الدعوة إلى القاهرة في أغسطس (آب) من ذات السنة، فإن الاستجابة لم تتم إلا في الشهر قبل الأخير منها، وكأن شيئاً خفياً كان يُرتب لهذا الموعد، أو كأن الأقدار قد شاءت أن تتوافق الرحلة الكلثومية مع ميلاد كان يتكوّن ويتشكّل في الأفق القريب.
وكانت الدعوة ثم تلبيتها بمثابة لقاء من النادر أن يتكرر بين السياسة الحكيمة التي اشتهر بها الشيخ زايد في زمانه، وبين الفن الراقي الذي عاشت سيدة الغناء حياتها تقدمه.
وكأن حاكم أبوظبي، التي صارت عاصمة الدولة لاحقاً، قد أراد أن يكون حضور الفن الراقي تهيئة لمواطنيه، الذين ما إن فرغوا من سماع أم كلثوم في حفلتين شهيرتين، حتى وجدوا أنفسهم على موعد بعدها بساعات مع الإعلان عن الاتحاد وقيام الدولة.
كان غناؤها شهادة على ميلاد دولة، وكان شدوها علامة على تأسيس اتحاد، وكانت الشهادة قد صادفت الظرف التاريخي الذي سمح بقيام الدولة، وكانت رحلة الفن الأصيل إلى دولة كانت لا تزال في علم الغيب، وكأنها انحياز مبكر إلى فكر الدولة في المنطقة، وإلى حضورها في حياة أبنائها، وإلى المسؤولية التي تتحلى بها كل دولة في مجتمعها، وفي إقليمها، وأمام مواطنيها، ولا تكون دولة بغير أن تتحلى بذلك وتظهره.
وقتها كان الوزير الشاعر مانع سعيد العتيبة، وزير البترول الإماراتي، قد ذهب يستقبل المطربة الشهيرة في المطار، وكان اختيار العتيبة على وجه التحديد لاستقبالها، وكأنه تعبير عن لقاء بين الشعر والفن، أو كأنه بساط يؤدي إلى لقاء الفن مع السياسة حين وصلت أم كلثوم قصر المنهل في ضيافة حاكم الإمارة.
كان الإعلان عن استقلال الدولة وقيام الاتحاد، قد جاء في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) من السنة نفسها، وكان هذا اليوم ولا يزال هو يوم العيد الوطني، وكان ولا يزال يثير في النفس الإماراتية كثيراً من المشاعر الوطنية العالية، وكان ولا يزال يوماً للذكرى التي تتجدد في كل عام.
إنها ذكرى سياسية، وذكرى فنية، ثم إنها ذكرى حياتية في مسار دولة ومسيرة اتحاد، وقد امتد المسار مع المسيرة لما يزيد على خمسة عقود.
وقد أراد الأستاذ محمد المر، ألا يمر لقاء السياسة الحكيمة مع الفن الراقي من دون توثيق، فأخرج كتابه «أم كلثوم في أبوظبي»، وجعل البطولة فيه للصورة فيه قبل أن تنعقد للكلمة، ربما لأن الصورة ليست فقط بألف كلمة كما يدرس طلاب الصحافة في كليات الإعلام، وإنما لأن الصورة تعبر بطبيعتها عما في إطارها بما يكفي، ولا تكون في حاجة إلى مزيد من كلام.
وهذا الكتاب لا يؤرخ للقاء القمة في أبوظبي حيث الفن والسياسة، ثم يتوقف عند حدود اللقاء وأجوائه، ولكنه يؤرخ للحظات قامت فيها دولة، ونشأ فيها اتحاد، وعاش الاتحاد من بعدها رابطةً قويةً تعلو فوق كل الأزمات، ومثالاً لعلاقة تقوم بين مكونات الدولة الواحدة.
وكان بعض من جمهور القمة العالمية للحكومات، التي أنهت أعمال دورتها العاشرة في دبي بالأمس، على موعد مع صاحب الكتاب حيث يروي حكايته، ويستحضر أجواء اللقاء البعيد، ويحكي ما يجدد الذكرى التي جمعت بين قمتين في السياسة والفن، كما لم تجمع بين سواهما.
ومن قمة السياسة والفن في مطلع سبعينات قرن مضى، إلى قمة للحكومات في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ومن قمة زينت سماء أبوظبي في وقت التأسيس والميلاد، إلى قمة في دبي تبدأ بالحكومات في العالم وبها تنتهي.
وعلى كثرة ما في العالم من قمم تنعقد ثم تنفض، وعلى كثرة ما يشهده من لقاءات على مستوى القمة، فليس فيه قمة تنشغل بالحكومات وحدها كل سنة، ولا في العالم قمة تشتغل على نقل تجارب الحكومات بين بعضها البعض، وتطرح التجربة الإماراتية على طاولة أمام الجميع، فلا تكون حكراً على أرضها، ولا تستأثر لنفسها بما تراكم لديها من المعرفة على مر السنين.
ليس في العالم قمة تعمل لهذا الغرض، إلا قمة الحكومات في دبي، التي تستلهم روح القمة الأولى في أبوظبي، أو كأن القمة الثانية تأخذ من وحي الأولى وتعيش من سنة إلى سنة.
كانت القمة الأولى تطلق مرحلة التأسيس للدولة، وكان الأب المؤسس يقيم دولته على مبادئ حاكمة، وكان نبيلاً من نبلاء السياسة في المنطقة، وكان يضع مع حجر التأسيس ما يضمن السعادة للأبناء من بعده، وللمواطنين والوافدين على السواء، ولم يحدث أن حادت الدولة عما دار في عقله في لحظة الميلاد، ولا عما عاش من بعد لحظة الميلاد يرسخ له ويدعم ويعزز.
ولم يكن غريباً أن تنشأ في الإمارات أول وزارة للسعادة في العالم، ولا كان عجيباً أن تتأسس فيها أول وزارة للتسامح في العالم أيضاً، فهذه هي «رسالة» قمة الحكومات إلى كل حكومة في كل دولة، وهذا هو ما يجعل دورتها العاشرة في نضارة دورة الإطلاق في 2013.
تضع قمة الحكومات هدفاً لها منذ لحظة الإطلاق، وتريد أن ترى العالم أفضل مما نراه، وتسلك إلى ذلك طريقاً عمليةً، فتختار وزيراً في كل سنة لتكافئه وتمنحه جائزتها، ولا يكون هذا الوزير إلا الرجل الذي قدم من موقعه في حكومته ما ييسر حياة الناس، وما ينقلهم من مكان إلى مكان متقدم على ما كانوا فيه، ومن بعدها يعيش الرجل وهو يحمل جائزة أحسن وزير.
وفي دورة هذه السنة كان الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، يسلم الجائزة إلى وزير التعليم في سيراليون، وكان هذا مما يجعل شعار الدورة اسماً على مسمى، لأن شعارها كان يدعو إلى توقيع عقد مع المستقبل.
والقمة التي تكرم وزيراً للتعليم، وتقدمه على بقية وزراء العالم، هي قمة تعني ما تقوله عن علاقتها بالمستقبل، لأنه لا طريق إليه إلا بالتعليم الذي قدمه هذا الوزير في سيراليون، فاستحق عليه الجائزة.