كنتُ أظن أن مصطلح «الاحتراق الوظيفي» يعاني منه صغار الموظفين الكادحين الذين يرزحون تحت ضغط العمل وانعدام الحافز؛ حين يتحول العمل إلى روتين يومي ضاغط ومكرر ومرهق بدنياً ونفسياً، ثم يصبح مفصولاً عن تطلعات الإنسان (الموظف) وشخصيته وحلمه... لكن تبين أن الاحتراق الوظيفي يمكن أن يصيب كبار رجال الدولة، بل زعماء الدول أيضاً، مثل رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا أرديرن، وهي واحدة من أكثر الزعماء نجاحاً، وأصبحت أصغر رئيسة حكومة في العالم عندما تم انتخابها رئيسة لوزراء نيوزيلندا عام 2017 عن 37 عاماً، وكانت فترة رئاستها مليئة بالنجاح، في بلد يصنف ضمن قائمة الدول العشر لأكثر الشعوب سعادة، وجودة في التعليم، وفي رأس قائمة مؤشر السلام العالمي، والدولة الأقل فساداً، كما تتصدر قائمة الدول الأكثر شفافية.
جاسيندا قدمت استقالتها قائلة: «حان الوقت بالنسبة إلي، فأنا لا أملك ما يكفي من الطاقة لأربع سنوات أخرى».
كان المحلل النفسي الأميركي هربرت جيه فرودنبرجر، أول من أدخل مصطلح الاحتراق الوظيفي إلى حيز الاستخدام في عام 1974، حين وضع كتاباً فريداً اسمه «الاحتراق الوظيفي»، وعرفه بأنه «انقراض الدافع أو الحافز، خصوصاً عندما يفشل تفاني المرء في قضية أو علاقة في تحقيق النتائج المرجوة».
أصبح الضغط الذي يعاني منه الموظفون جزءاً من صورة الحياة التي نعيش فيها: حجم الأعمال مع ضغط الوقت، مع الاضطرار للتضحية بالحياة الخاصة، يُضاف لها بيئة العمل المليئة بالصراعات والضغوط والمشاحنات، مع رهاب الحرمان من الوظيفة (عبودية الراتب)، وتقلص فرص الترقي، وانعدام العدالة والمساواة، وفقد الأمل بالمستقبل، والأهم؛ غياب الرؤية لدى قيادة الأعمال في الاهتمام بالعنصر البشري وتمكينه وإسعاده. غالباً ما ينجم عن هذه الضغوط ما نعرفه اليوم بـ«الاحتراق الوظيفي»، ومن مساوئه تقليل نسبة الإبداع والابتكار فضلاً عن حب العمل والتفاني في إنجازه.
هناك أشخاص يراكمون المسؤوليات بين أيديهم، يدمنون العمل باختيارهم، وهؤلاء أقل سوءاً، من القياديين الذين يتسلطون على من تحت أيديهم ويغرقونهم بالأعمال المضنية والمرهقة، ولا يفسحون لهم المجال للمشاركة في التفكير والاقتراح والإبداع، مع وابلٍ من التوبيخ والازدراء. لقد أصبحت أمراض الضغط والسكر والسمنة من متلازمات الموظف العصري اليوم، إذا لم نتحدث عن معاناة الموظفات من النساء، خصوصاً معاناتهن مع إدارات ذكورية لا تؤمن بتمكين المرأة.
من بين كتب غازي القصيبي الكثيرة، هناك كتاب أصدرته مكتبة «العبيكان» بعنوان «استجوابات غازي القصيبي»، وصدر في العام الذي توفي فيه 2010، ويتضمن حوارات أجراها الأديب والوزير الراحل مع صحف من بينها حوار مع «مجلة الشرق الأوسط»، قال القصيبي: «أنا من المؤمنين إن الإنسان - مهما كان عمله مهماً - يجب أن يجد قسطه من الراحة. يجب عدم السماح للعمل بأن يسلبه حياته بأكملها».
ثم يتحدث عن نفسه قائلاً: «أنا في وقت راحتي لا أحب أن أدخل في عمل إطلاقاً، وعندما أذهب في إجازتي السنوية، لا أتصل - إطلاقاً - بمركز عملي، ولا أريد أن يعرض عليّ قرار واحد، أو ورقة واحدة. أيضاً عندما أكون في بيتي أترك العمل وراء بوابة المنزل. عندما أكون في عالمي الخاص في منزلي، لا أحب أن يقتحم علي المنزل العمل أو أي أشياء أخرى مرتبطة به».
ثم يقول أبو سهيل: «لكي تكون منتجاً في عملك، يجب أن تكون قادراً على أن تعطي نفسك حقها من الراحة الجسدية» (صفحة 85).
لماذا يتفنن بعضهم في سحق موظفيهم وامتهان كرامتهم، وتعريضهم للإذلال والتخويف، وسد منافذ الأمل في وجوههم... ثم يتوقعون منهم الإخلاص والإنجاز والتميز...؟
ألا يحتاج الموظف إلى زاد ثقافي، وإلى معرفة، إلى أن يتفرغ للقراءة، والتأمل، والرياضة، والسفر... بل: ألا يحتاج إلى فراغ يفصل فيه الذهن عن دوامة العمل والتفكير فيه؟ لماذا لا تفكر منشآت الأعمال في تحفيز موظفيها على ممارسة القراءة، والكتابة، والفنون الإبداعية؟ ألا يعد وجود موظف مثقف، ولديه قدرة على التفكير الإبداعي، وعاشق لعمله، ومتحرر من الضغوط النفسية، سبباً في جودة العمل وإتقانه وتحقيق النجاح والمكاسب...؟
8:2 دقيقه
TT
جاسيندا تفر من «الاحتراق»...!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة