إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عن الكاتب العبد... ثانية

وعودة إلى موضوع عمود الأحد الماضي. إلى محترفي الكتابة الذين يؤلفون الكتب لغيرهم مقابل مبالغ متفق عليها. إن أسماءهم لا تظهر على الغلاف. ولهذا فإنهم بمثابة الأشباح، يسمونهم في عالم النشر «العبيد». ومناسبة العودة إلى الموضوع مقال قديم نشره واحد منهم.
اسم الكاتب فرنسوا فورستييه. ناقد سينمائي في واحدة من المجلات الفرنسية البارزة، يبلغ من العمر 75 عاماً. أمضى أغلبها وهو يؤلف الكتب لمن يدفع. ولا يهمّ من يكون الشخص الذي يظهر الكتاب باسمه. فهو يعير موهبته لفئات متباينة من البشر، مشاهير أو نكرات. قلم بارع سيّال بلغ من سيولته أنه قادر على تأليف عشرة كتب في السنة.
قبل مقاله هذا، لم يكن أحد يعرف أن هذا الناقد السينمائي يشتغل عبداً أدبياً. صفة لا يخجل منها، بل يعترف أنه يعشقها كمهنة. كان يمضي الساعات وهو يستمع إلى غطاس يبحث عن كنز في البحار، أو طبيب أسنان يزعم أنه توصل إلى صناعة ضرس من الفحم، أو شرطي يهوى جمع قطع النقد البيزنطية، أو زعيم بدعة يؤمن بأن ماء الحنفية وقود شيطانيّ.
أي متعة في كتاب يحقق مبيعات طيبة بينما يبقى مؤلفه الحقيقي في الظل ولا ينال شهرة؟ بدأ الأمر حين طلب منه منتج سينمائي أن يختصر له 10 آلاف صفحة في 350 صفحة. حدّد له شهراً. 4 أسابيع لا أكثر. وجد نفسه خلالها غارقاً في 10 سيناريوهات و72 شخصية. أمضى ليالي طويلة يحذف ويلصق. وكانت سعادته غامرة في نهاية العمل. كأنه خاض معركة مع نفسه وحقق انتصاراً. والأهم أنه حصل على مكافأة مالية دسمة.
يؤمن الشبح بأن لكل فرد في هذه الدنيا حكاية يمكن أن تروى. أن تجارب الناس دروس للناس. لكن أصحاب القصص يعجزون عن كتابتها. لذلك فإنه يؤدي وظيفة اليد القادرة على أن تحيل الكلام إلى قصة تصلح للنشر. يسجّل «العبد» مرويات «السيد» الشفاهية، ثم يسهر معها لكي تولد على الورق. لا شك أنه يجد متعة في التلصص على أسرار زبائنه. يقول إنهم يحكون له ذكرياتهم وآمالهم المحبطة ويتولى هو وضع قواعد النحو في أكوام الحنين. الفواصل في التواريخ. يجمع الفاعل مع المفعول. يصف نفسه بأنه «مسّاح أحلام أدبية».
فرنسوا فورستييه هو القلم الذي ألّف كتاب سنيانا ديميتروفا، إحدى الممرضات البلغاريات اللواتي احتجزهن القذافي في ليبيا. تحكي وتبكي وهو يسجّل. وهو من كتب مذكرات سونيا رولان، أول ملكة جمال سوداء لفرنسا.
تقلي له البيض وتتحدث عن طفولتها في رواندا. كما دبّج كتاباً ظهر باسم لورنس سيغورا، زوجة رجل العصابات الذي تكررت محاولات هروبه من السجن. يقول إنها كانت مستعدة لنسف الجمهورية كلها في سبيل مساعدة رجلها.
خلال عقود من السنين كان يشتغل «عبداً» لمدمنين ولقديسات. يوجهون له دعوات للإقامة في فنادق فخمة أو منازل شبه مهجورة. يتحللون في حضرته من كل الهواجس. وهو يستمع مثل كاهن الاعتراف، أو مثل بائع متجول، أو طبيب نفسي لا يحب الأضواء.
التقى ذات يوم بواحد منهم في حفل بفندق فخم. كان ممثلاً معروفاً أرسل له بالبريد رزمة خرابيش وطلب منه أن يجعلها كتاباً. قال له الممثل، في ذلك اللقاء، إن السنة التي مضت كانت صعبة بشكل خاص، لأنه تفرغ فيها لتأليف كتابه. تصوّره صحافياً من المدعوين لحفل التوقيع. لم يكن «السيد» يعرف شكل «عبده».