لم يكن نبأ انخفاض أسعار السلع الاستهلاكية في ديسمبر (كانون الأول) عنها في نوفمبر (تشرين الثاني)؛ حيث كان التضخم الشهري سلبياً، رائعاً بالنسبة إلى مصرف الاحتياطي الفيدرالي، كما قد يتوقع المرء، فالمسؤولون في مصرف الاحتياطي الفيدرالي يحاولون إقناع الأسواق المالية وعامة الشعب بأن المعركة ضد معدل التضخم المرتفع أبعد ما تكون عن النهاية، لكن هذه المعلومة لا تساعد كثيراً في توضيح الأمر.
تحتاج تلك الالتفافات إلى قدر من الشرح والتوضيح، لكن فلنلق نظرة أولاً على هذا المخطط الخاص بمؤشر الأوضاع المالية الوطنية المعدّل، الذي يحتفظ به خبراء الاقتصاد في مصرف الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو.
انظر إلى ما يحدث فعلياً، في يوليو (تموز) الماضي، كانت الأوضاع المالية أكثر تقييداً عن المعدل المتوسط طويل المدى، والآن هي أقل تقييداً عن المتوسط، رغم رفع مصرف الاحتياطي الفيدرالي خلال هذه المرحلة المدى المستهدف للأموال الفيدرالية بمقدار 3 نقاط مئوية تقريباً. ويمثل الخط الصفري في المؤشر المعدّل الخاص بمصرف الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو متوسط الأوضاع المالية بالنظر إلى المستوى الحالي للنشاط الاقتصادي والتضخم.
لماذا لا تفعل الأسواق ما يريده مصرف الاحتياطي الفيدرالي؟ يبدو أن المستثمرين قد استنتجوا أنه رغم رفع مصرف الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة حالياً، سوف يبدأ في خفضها بحلول نهاية العام الحالي، إما بسبب انتصاره في الحرب على التضخم، أو بسبب ما يمر به الاقتصاد من اضطرابات وصعوبات، أو ربما بسبب مزيج من الأمرين معاً. استناداً إلى تداولات العقود الآجلة في سوق شيكاغو المالية، يتوقع المتداولون أن يرتفع معدل الأموال الفيدرالية إلى الذروة في يونيو (حزيران)، ويعود إلى النقطة التي يقف عندها حالياً بحلول ديسمبر (كانون الأول). ومما يزيد الأمور تعقيداً أن الانخفاض الطفيف في الأسعار خلال شهر ديسمبر الماضي كان متوقعاً تماماً، وربما يكون المتداولون قد راهنوا على حدوث تباطؤ أكبر في معدل التضخم.
وهنا تتجلى حالة التناقض المحيّرة بالنسبة إلى مصرف الاحتياطي الفيدرالي، فقد تمكّن المصرف من إقناع الأسواق المالية بأنه سوف يخفض التضخم حقاً، لكن كلما كان وعده أكثر قابلية للتصديق والتنفيذ، كلما ازداد عدد المستثمرين الذين يتطلّعون إلى ما بعد الدورة الضيقة الحالية، أي الدورة التالية المرتخية. يشعر المسؤولون في مصرف الاحتياطي الفيدرالي بالقلق من أن تساهم تلك الأوضاع المالية السهلة في استمرار حالة الضيق في سوق العمل، وتجعل الضغوط الخاصة بالأجور قوية، ما يمنعه من تحقيق معدل التضخم المستهدف. لذا يتحركون سريعاً برفع المعدلات حتى في ظل تراجع التضخم. إن هذا مثل رقصة ثنائية غريبة قد تنتهي بوضع سيئ للغاية بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي.
الدليل الأكثر وضوحاً على وجود شيء ما خاطئ هو ارتفاع معدلات الفائدة قصيرة الأجل، التي تشير إلى اعتقاد السوق في عزم مصرف الاحتياطي الفيدرالي على الاستمرار في رفعها، مع انخفاض معدلات الفائدة طويلة الأجل، التي تشير إلى اعتقاد السوق بأن المعدلات سوف تنخفض في المستقبل، إما بسبب تراجع التضخم، أو الركود، أو كليهما. إن هذا هو عكس النمط المعتاد، الذي تكون فيه المعدلات طويلة الأجل أعلى من المعدلات قصيرة الأجل. وتُعرف هذه الحالة باسم انعكاس منحنى العائد، وكما كتبت خلال الشهر الماضي، يعدّ ذلك مؤشراً موثوقاً فيه على حدوث ركود.
جرس الإنذار الذي كان يعلو رنينه مدوياً خلال الشهر الماضي، أصبح أعلى رنيناً الآن. في ديسمبر الماضي، كان العائد على أذون الخزانة ذات أجل 3 أشهر أعلى بمقدار 0.8 نقطة مئوية من العائد على سندات الخزانة، البالغ أجلها 10 سنوات، وهو ما كان يبدو هائلاً في ذلك الوقت. لقد اتسع الفارق حالياً، ووصل إلى 1.2 نقطة مئوية، وهذا أكبر من أي فجوة سابقة في سجلات مصرف الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس منذ عام 1982.
يشعر جيروم باول، ومسؤولون آخرون في مصرف الاحتياطي الفيدرالي، بالقلق من عدم قدرتهم على إعادة معدل التضخم إلى المستوى المستهدف، البالغ 2 في المائة سنوياً، حتى إبطاء معدل الزيادة كثيراً، في حال التوقف عن رفع المعدلات الآن. صحيح أن الانخفاض الشهري في الأسعار خلال شهر ديسمبر كان حدثاً منفرداً غير مسبوق نتيجة لحدوث انخفاض كبير في أسعار الوقود وتذاكر الطيران، وهو أمر لن يتكرر كل شهر، وارتفعت الأسعار باستثناء أسعار الطعام والطاقة بنسبة 0.3 في المائة خلال شهر ديسمبر عنها في نوفمبر. يوضح دوي، مراقب مصرف الاحتياطي الفيدرالي في مؤسسة «أس جي أتش ماكرو أدفايزرز»، أنه في الوقت الذي يتراجع فيه تضخم أسعار السلع تدريجياً، يظل تضخم أسعار الخدمات مستمراً، وكذا الضغوط الخاصة بالأجور.
مع ذلك، تتمثل المخاطرة المقابلة في أن يزيد مصرف الاحتياطي الفيدرالي تشديد وتضييق الوضع كثيراً. يبدأ مسؤولون في مصرف الاحتياطي الفيدرالي النظر في هذه المخاطرة، ووضعها في الاعتبار. بعد القيام بـ4 زيادات كبيرة متتالية في معدل الأموال الفيدرالية خلال العام الماضي، طبّقت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية ارتفاعاً أقل في ديسمبر، وربما تجعله أقل خلال اجتماعها المقبل خلال شهر فبراير (شباط)، بحسب بيانات أخيرة مقدّمة من أعضاء اللجنة.
على الجانب الآخر، في الوقت الذي يتحدث فيه مسؤولون في مصرف الاحتياطي الفيدرالي عن إبطاء معدل الزيادات، يبدو أنهم لا يزالون متفقين على رفع معدل الأموال الفيدرالية إلى أكثر من 5 في المائة بقليل، وهو ما يعدّ أكثر عن المعدل الحالي بمقدار 3 أرباع نقطة مئوية. وقال لي جيمس نايتلي، كبير خبراء الاقتصاد الدوليين في مجموعة «آي إن جي»: «يحتاج مصرف الاحتياطي الفيدرالي إلى رؤية دليل واضح على خروج التضخم من المنظومة بالكامل».
ربما يكون قد نتج عن تشدد مصرف الاحتياطي الفيدرالي انهيار ثقة المسؤولين التنفيذيين الأميركيين. بحسب استطلاع رأي ربع سنوي لمؤسسة «ذا كونفرنس بورد»، كان مقدار الثقة المتراكم في ربيع عام 2021 هو الأعلى منذ بدء عمل السجلات في عام 1976. وقد انخفض بحلول الربع الرابع من العام الماضي إلى أدنى معدلاته منذ الأزمة المالية العالمية في 2009. حتى إنه أسوأ من الوضع خلال الركود الناجم عن وباء «كورونا» عام 2020. إذا تصرف المسؤولون التنفيذيون على أساس تشاؤمهم، لا اليقين، ربما يبدأون في خفض الإعلانات، وكذلك خفض شراء وتأجير المعدّات، ما يحوّل توقعاتهم إلى نبوءة تحقق ذاتها.
قالت كريستينا رومور، رئيسة الاتحاد الاقتصادي الأميركي المنتهية مدتها، خلال مؤتمر اقتصادي كبير في ولاية نيو أورلينز، في نهاية الأسبوع الماضي، قائم على بحثها مع زوجها ديفيد رومر، إنه لا ينبغي أن يتفاجأ واضعو السياسات في مصرف الاحتياطي الفيدرالي، أو يصيبهم الإحباط، إذا ما رأوا أن الزيادات في معدل الفائدة، التي أقرّوها بالفعل، قد فشلت في إبطاء معدل التضخم الحالي. استناداً إلى التجربة، من المرجح أن تبدأ تلك الزيادات السابقة في إبطاء التضخم عند المستوى الحالي تقريباً، وزيادة معدل البطالة. كذلك قالت رومر، عالمة الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، التي كانت رئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس في إدارة أوباما: «سوف يحتاج واضعو السياسات إلى التراجع عن رفع المعدلات قبل أن يتم التوصل إلى حل كامل لمشكلة التضخم». وأوضحت أنه إذا استمروا في زيادة المعدلات إلى أن يتم قهر التضخم وهزيمته تماماً، فسوف «يكونون قد تمادوا في الأمر، وتجاوزوا الحدود بالتأكيد».
* خدمة «نيويورك تايمز»