سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

حلاوة السُّلطة

في 2020 كان الثلاثة في السلطة، وكان وجودهم فيها على غير اتفاق؛ لأنهم جاءوا إليها من خلال صندوق الاقتراع، وكان من الطبيعي أن يغادروا من خلال الصندوق نفسه؛ لأنه يظل الفيصل الأخير في بلادهم، ولأن العبث بحصيلته ليس ممكناً في الحالات الثلاث.
ولم تكن المشكلة في وجودهم على مقاعدهم، ولكنها كانت في أن يقبلوا بفكرة المغادرة، وفي أن يتقبلوا حكم الصندوق دون شغب غير معتاد.
ويبدو أن وجودهم في زمن كورونا قد جعل عدواه تصيب كل واحد فيهم، وبمعنى آخر جعل العدوى السياسية تنتقل بينهم الثلاثة، وبالسهولة التي كانت تنتقل بها عدوى اليروس في زمانه بين الناس، فلا يكون هناك فرق تقريباً بين عدوى السياسة وعدوى الطبيعة.
وليس هذا هو التفسير الوحيد طبعاً، رغم عبثيته وعدم معقوليته، وإذا كنا قد لجأنا إليه باعتباره تفسيراً قد يسعفنا في الفهم وفي الاستيعاب، فليس ذلك إلا لأن الحالات الثلاث عبثية هي الأخرى، وهذا ما سوف نراه إذا جربنا أن نتطلع إليها معاً، وباعتبار أنها يضمّها زمن واحد، وتجمعها طبيعة واحدة، ثم إذا جربنا أن نتطلع إليها؛ كل حالة منها على حدة.
إن علم النفس عنده تفسير، وتفسيره أن حالة من الالتصاق بالكرسي تنشأ مع الوقت بينه وبين الجالس عليه، وهي حالة نفسية أكثر منها أي شيء آخر، كما أنها حالة تجعل هذا الجالس على مقعد السلطة لا يتصور نفسه بعيداً عنه، وبالتالي يتصرف على هذا الأساس، وبغير أن يبالي بنتيجة تصرفاته على نفسه، ولا على الذين شاء لهم سوء الحظ أن يكونوا من بين رعاياه.
وهو يفعل هذا ويمارسه، سواء من أجل البقاء فوق مقعده، أو في سبيل العودة إليه إذا فارقه، ولا يجد شيئاً أمامه مُحرماً أو محظوراً في الحالتين.
هذا تفسير نفسي استقر عليه علم النفس في العالم، وقد استقر عليه بعد مراقبة طالت لأحوال الجالسين على الكراسي، وبعد دراسات ممتدة لحالات حية كانت بين أصحابها وبين السلطة حكايات، ولأن الأمر كذلك فنحن أمام ملمح من طبائع البشر.
ولأن الأمر له علاقة متأصلة بالطبيعة البشرية، فلا علاقة له، فيما يظهر، بطول أو قِصر البقاء على الكرسي في السلطة، وإنما له علاقة باكتساب السلطة في حد ذاتها، حتى ولو كان اكتسابها سوف يكون لساعة واحدة؛ لأن الساعة كالعقد من الزمان في الموضوع.
وفي تراثنا، العرب كانوا يصفون أصحاب هذه الحالات بأنهم ذاقوا «حلاوة السلطة».. وكان الإمام علي بن أبي طالب هو الذي قال: من ذاق عرف.
وهذا بُعد آخر في القضية التي بين أيدينا، وهو بُعد يضيئها أكثر؛ لأنه ينتقل بالفكرة من المستوى المعنوي عند الحديث عن التفسير النفسي، إلى المستوى المادي الخالص، الذي يجعل للسلطة حلاوة، ويجعل كل الذين يذوقونها لا يعرفون كيف يتخلّون عنها، ولا يعرفون كيف يمكن أن يجيء عليهم وقت، لا تكون هذه الحلاوة متاحة لهم أو لا تكون في متناول اليد؟!
ولكن الحلاوة النفسية في السلطة أعلى، فيما نراه أمامنا ونتابعه، من الحلاوة المادية التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة؛ لأن الثانية متنوعة وكثيرة، ولكن الأولى نوع وحيد، ولا نظير له عند تفسير هذه العلاقة الخفية التي تشدّ صاحب السلطة إلى مقعده.
إنها تشده ولا تربطه فقط؛ لأن الأمر إذا كان أمر ربط أو ارتباط، فإن تحرير الشخص من هذا الارتباط يفترض أن يحرره تماماً، ولكن الحاصل غير هذا بالمرة؛ لأنه لا يتحرر إلا ليعود، ولا يكاد يغادر حتى يعاود التفكير في الرجوع، وبصرف النظر عن الطريقة التي يكون قد غادر بها مقعده في السلطة.
والمال مثلاً لا تنقصه الحلاوة بمعناها المادي، وعندما تكلّم القرآن الكريم عن حلاوة المال وعن زينته، فإنه راح يقدمه في حياة الناس على الأبناء أنفسهم، فقال: المال والبنون زينة الحياة الدنيا.
ولو شاء القرآن لكان قد قدم البنون على المال، ولكنه نزل من سماء هي أدرى بطبائع الناس، وبغير تمييز بين هؤلاء الناس في الدين، ولا في اللون، ولا في الجنس، فكلهم في هذا الشأن سواء؛ لأن الحديث هو عن طبيعة بشرية لا نظرية دينية.
لا فرق في المسألة بين بنيامين نتنياهو اليهودي، ودونالد ترمب المسيحي؛ فكلاهما يتشبث بالمقعد كإنسان ذاق حلاوة السلطة وعرفها، وليس كمعتنق هذه الديانة أو تلك، ومع ما نعرفه عن اختلاف طبيعة تعاليم موسى عن تعاليم المسيح عليهما السلام.
إن رجلاً مثل دونالد ترمب لا ينقصه مال، وعنده منه الكثير جداً، ويكاد يملك مال قارون، وكان في وقت من الأوقات يملك أعلى وأشهر برج في نيويورك، والمنتجع الذي يقيم داخله في ولاية فلوريدا الساحرة في الجنوب الأمريكي، والذي أخذوا منه وثائق البيت الأبيض السرية، هو منتجع لا مثيل له في فخامته، ولكن حلاوة هذا كله لم تصمد أمام حلاوة السلطة.
وهو يقاتل في طريق العودة إلى حلاوة السلطة، قتال شخص لم يذق حلاوة سواها في حياته، ويكاد يدخل السجن في قتاله من أجلها.
وهو لم يمكث في مكتبه البيضاوي إلا أربع سنوات، فمن أين جاءه هذا الالتصاق بالكرسي، ومتى تولدت هذه الرغبة في داخله، ومنذ أي لحظة نشأت هذه العلاقة التي لا تريد أن تنفصم، وماذا لو كان قد بقي عقداً أو عقدين من الزمان على الكرسي؟!
ولا يختلف عنهما جايير بولسونارو، الرئيس البرازيلي السابق، الذي ما إن عرف أنه خسر السباق أمام الرئيس لولا دا سيلفا، حتى غادر البلاد نهائياً، وكأنه لا يتخيل نفسه مقيماً في بلد لا يرأسه، أو لا يكون سيداً في داخل القصر يحكمه.
وإذا كان ترمب يكاد يدخل السجن، وهو يتمسك بالعودة حتى النهاية، فما يفعله نتنياهو فهو أنه يريد الهروب من سجن يلاحقه، ورغم أن هذه هي المرة السادسة التي يذوق فيها حلاوة السلطة رئيساً للحكومة، ورغم أنه ذاقها من قبل خمس مرات في بلد تتجمع فيه السلطة في يد رئيس الحكومة لا رئيس الدولة، فلا مانع عنده من أن تكون المرات عشراً وعشرين.
هؤلاء الثلاثة كانوا في السلطة في العام الذي هاجم فيه كورونا العالم، فلما اختفى أو كاد، كانوا قد فقدوا المنصب، ولكنهم لا يرون في فقده نهاية المشوار، ولقد عاد رئيس وزراء إسرائيل، ولا يزال الاثنان الآخران يحاولان ولا يتورعان عن فعل أي شيء في أثناء المحاولة.
ولن يكونوا أول الذين فعلوا ذلك ولا آخرهم، ولكنهم نماذج ثلاثة لا بد أن تخضع لدراسة علمية؛ لأن فيهم أشياء جديدة لم تكن في سابقيهم على ذات الطريق، ولأن علم النفس سوف يضيف الجديد إلى نصوصه، وهو يراقب سلوك هذه الحالات الثلاث ويدرسها.
ماذا تفعل السلطة في تركيبة الدماغ لدى الجالس على الكرسي؟!.. هذا هو السؤال الذي وصل علم النفس إلى إجابة سابق فيه، ولكن ما نراه حولنا في الحالات الثلاث يقول إن الإجابة السابقة لم تعد تكفي للشرح ولا هي كافية للتفسير!