د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

ذاتُنا الوردية الزائفة!

من رحمة الخالق بعباده أنه أخفى عنهم آراء الناس الصريحة بهم. ولا نفيق من غفلة «الإفراط في الاعتداد بالنفس أو تضخم الأنا» حتى يأتي من خلع رداء الكياسة ليواجهنا بحقيقتنا المرة. الدراسات تشير إلى أننا كأفراد ومسؤولين نمتلك صورة وردية أو متضخمة عن ذواتنا. وتكبرنا هذه المشاعر رويداً رويداً، ولا تنفجر الفقاعة حتى يأتي سهم نقدي ثاقب. وكان خلاصة أحد محاور رسالتي في الدكتوراه عن الأسلوب القيادي في القطاع المالي، التي كشفت أن لدى القياديين صورة مبالغ فيها عن أنفسهم. وهو ما جاء متسقاً مع نتائج عشرات الدراسات الغربية التي قارنت بين تقييم المرء لنفسه (self – report) وبين تقييم الآخرين له (peer – report).
مشكلة اللطفاء أنهم يخدعوننا لبعض الوقت بمديح زائف حتى يأتي من يصوب سهام نقده تجاهنا. من هذه «الطعنة» بزغت فكرة تطبيق عربي سعودي ذاع صيته اسمه «صراحة. كوم». خلاصته أنه رابط إلكتروني يمكنك من «جلد» من تشاء في عقر داره (صفحته) من دون أن يعرف أحد من الناقد. ولذلك يرفع الموقع شعار «النقد البناء» ربما لكي يتقبل الناس انتقاداتنا تجاههم. فمشكلة معظم الانتقادات الصريحة أنها لا تغلف بأسلوب حسن.
بالتعمق في أسباب الذات الوردية أو المتضخمة، نجدها تعود إلى أمور عديدة، منها ما يسمى «تأثير دانينغ كروغر» (Dunning Kruger Effect)، وهو انحياز في سلوكنا يجعلنا نعتقد أننا أكثر ذكاء من الآخرين، ومقدرة في التصدي لتحديات الحياة، وذلك بسبب مبالغتنا في تقدير مهاراتنا، وإخفاقنا في تحديد مواطن ضعفنا وكيفية معالجتها. وبرز هذا المفهوم في بحث نشره عالما النفس ديفيد دانينغ وجوستن كروغر من جامعة كورنيل الأميركية في عام 1999م، فدرسا «منطق المشاركين وقواعدهم اللغوية وحس الدعابة لديهم»، فاتضح لهما أنه كلما ارتفعت خبرة المرء في مجال ما انخفضت «ثقته إلى مستويات أكثر واقعية، لأنه يبدأ في إدراك افتقاره إلى المعرفة والقدرة، ولكن مستويات ثقته تبدأ بالتحسن بمجرد اكتساب المزيد من المعلومات حتى يصبح خبيراً بالفعل»، حسب مجلة «هارفارد بيزنس ريفيو».
وآراء الناس ليست بوصلتنا، فإرضاؤهم غاية لا تدرك. وكلنا يذكر قصة جحا وابنه عندما كان يركب حماره وترك ابنه يسير خلفه ماشياً تحت أشعة الشمس اللاهبة. فسمع انتقادات الناس عن جفاء الأب، فطلب من ابنه أن يركب، ليكمل جحا الرحلة ماشياً، نظراً لصغر حجم حماره. فأمطر رهط من الناس ابنه بوابل من الانتقادات: كيف تركب وتترك والدك يسير في هذا الحر القائظ؟ فأُسقِطَ في يد جحا فلا هو تمتع بالرحلة ولا هو أرضى الناس. وهذه الحكاية تشرح معاناة كل من يحاول إرضاء الناس. غير أنه في بيئات العمل الأمر يختلف، ذلك أن تجاهل ملاحظات المسؤول المباشر، أو الانتقادات المتكررة والوجيهة في سلوكنا قد ندفع ثمنها غالياً.
ومن هذا المنطلق تعالت صيحات التوجهات الحديثة في تقييم الموظفين من جميع الاتجاهات بطريقة 360، فلم تعد فكرة تقييم المدير وحده لمرؤوسيه فكرة عقلانية، فلا بد أن نضع وزناً معقولاً ومتفاوتاً لرأي كل من «يحتك» بالموظف كنظرائه، ومرؤوسيه والمراجعين أو العملاء. ذلك أن مجموع جودة سلوكياتنا كبشر هو ما ينتج الثقافة السائدة بالعمل، وهذا ما يميز بين إدارة وأخرى ومؤسسة ومنافستها.
ومن أسباب تضخم الذات الثقة المبالغ فيها. إذ تنم الثقة المفرطة بالنفس أو تجاهل الانتقادات الوجيهة عن شيء من حماقة. إذ يقول أديب الإنجليز ويليام شكسبير: «الأحمق يعتقد أنه حكيم، ولكن الرجل الحكيم يعرف نفسه بكونه أحمق». ويقول عالم الطبيعة: «الجهل في كثير من الأحيان يولد الثقة أكثر مما تفعل المعرفة». ويقول شاعر الأمة المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم