فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

أجنحة حان وقت رفرفتها

ليس هنالك ما هو أجدى من الحوار بالنسبة إلى الأزمات عندما تعصف بدولة تعددت فيها الأحزاب والمشارب السياسية، ويصل النزاع بين رموز الأحزاب وتتنوع طبيعة الرموز بين صقور وثعالب لجهة التخاطب وطبيعة موضوعات الأزمة، في حال لم يأخذ هؤلاء بالحوار بهدف الالتقاء على نقاط مشتركة ثم تقليل الحدة شيئاً فشيئاً لترك النقاط تنتهي صيغة توافُق تليها صيغة حل... ثم تشق التسوية المأمولة طريقها.
وفي لبنان دون غيره من دول الأمة يكاد لا يمر تعقيد أزمة طارئة أو حتى أزمة مستديمة، من دون أن تتكاثر الدعوات إلى الحوار. لكن اللافت أن هذا الحوار لا يتم. وأما إذا حدثت أعجوبة وتمت جولة أو جولات حوار، فإنها تتم على قاعدة عدم حُسْن النية، وأن الحوار هو لرفع العتب وللتهرب من وضْع الإصبع على الجرح.
لكن قبْل اجتراح معجزة الحوار الذي يجدي حلاً ثابتاً وغير مهدد بأنواء سياسية من خارج الحدود، هنالك حوارات لا بد منها في المجمعات الكثيرة التي أمعنت عناداً فتعطيلاً لأي بادرة حل ثابت تنقذ لبنان من وهدته التي شكَّلت أنواعاً من المآسي للشعب مقابل تخمة في المكاسب لأهل لبنان الحزبي والتياري والحركي ومعها الأطياف المحلقة في فضاءات دولية وإقليمية.
ما نعنيه بالحوارات من شأن السطور التالية توضيح المعالم والمقاصد.
المتعارف عليه حزبياً في الدولة التي يحقق الاستقرار والطمأنينة للشعب، هو أن يكون هنالك حزبان رئيسيان وحزب ثالث أو بضعة أحزاب صغيرة، وتكون قضية كل من هؤلاء الأحزاب مع تنوع الرؤى هي الحرص على الكيان والتمسك بالسيادة وعدم الارتهان إلى دول أو أحزاب أو مشاريع خارجية. وهذا على سبيل المثال لا الحصر ما هو سائد في دول أنظمتها ديمقراطية. ففي الولايات المتحدة يمارس كل من الحزبيْن (الجمهوري والديمقراطي) الدور الوطني بامتياز كما هي التجربة المماثلة في بريطانيا، حيث يمارس الحزبان (المحافظون والعمال) الدور نفسه، وما هو مأخوذ به في الدول الآنفة الذكر موجود في سائر الدول الأوروبية ودول العالم التي يُحترم الشعب فيها وإلى درجة تقديس الوطن كياناً وواجباً وحرصاً.
كما متعارف عليه، أن يكون داخل الحزب الواحد ما اصطُلح على تسميتها أجنحة، وبحيث يقال الجناح اليميني في هذا الحزب والجناح اليساري والجناح المستقل. ولكنها أجنحة وطنية بامتياز وينحصر دور هذا الجناح أو ذلك أو ذاك في إبداء وجهة نظر في مسألة مطروحة للنقاش أو للتصويت. وبهذا التنوع البعيد عن التناقض تتم صياغة الموقف الرسمي والتصويت على قرارات إنما بعد أن تكون معالم المواقف واضحة ومعلَنة ولا تنشأ عن ذلك أزمة تستغرق أسابيع أو أشهراً وتتزايد تبعاً لهذه الخطوة طمأنينة الشعب ومتانة استقرار الإدارة الحكومية للدولة دون تفضيل طيف على أطياف ودون تعطيل المصالح.
مثل هذا الأمر تفتقده معظم دول العالم الثالث بسبب طبيعة الأنظمة، حيث البعض منها أتى إما بفعل انقلابات عسكرية وإما بفعل فاعل ثوري خارج الحدود. لكن الصيت الذائع عن لبنان بأنه دولة ديمقراطية يفرض عليه واجب الممارسة الصحيحة للأسلوب الديمقراطي في كل مناحيه. وعندما لا يلاحظ المرء وجود هذه الممارسة من الطبيعي أن تكون حاله على هذه الدرجة المخزية سياسياً والمحزنة شعبياً. وعند التأمل في خرائط طريق الأحزاب اللبنانية نفتقد المنحى الديمقراطي فيما تتخذه من مواقف. وهذا عائد إلى أن الزعامة حديدية في كل من هذه الأحزاب، حيث لا مناقشات تحدُث ولا أجنحة تتكون ولا فرصة أمام تنوع في معالجة المسائل التي تستوجب اتخاذ مواقف أو قرارات في شأنها.
وإذا جاز القول، فإن إفساح المجال أمام جمهور هذا الحزب أو الحركة أو التيار لكي يناقش من دون إملاءات أو ضغوط أو إيحاءات، قضية من تلك القضايا العالقة ومنها افتراضاً تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس جمهورية، كفيل بنشوء أجنحة من دون أن يفقد الصقر مخالبه بالكامل، وإنما يجعله يتبصر أكثر في الأمور ويرى أن ما يقوله عن هذه القضية أو تلك أو الهجوم الكلامي على هذا الطرف أو ذاك أو هذه الحدة في المواقف الذي هو غير قابل للنقاش، ما كان ليقال على نحو ما قيل لو أن هذا الجناح أو ذاك داخل هذا الكيان الحزبي أو الحركي أو التياري أمكنه المناقشة وإبداء الرأي.
وإذا كانت صيغة تشجيع ظاهرة تعدد الأجنحة داخل الكيان الحزبي مستبعدة خشية محاذيرها على القيادة التي تنحصر في الشخص الواحد، فإن الأخذ بالتقليد المألوف يصبح مطلوباً ودليلاً على احترام مَن هم في الأعالي لمَن هم في السفوح، وهو التشاور وبحيث يكون في رحاب رئيس هذا الحزب أو الحركة أو التيار نخبة مَن إذا نصحوا فمن الخير الأخذ بنصحهم، وإذا انتقدوا فمن الخير الأخذ بنصحهم، وإذا انتقدوا فمن المجدي تشجيعهم على الانتقاد عند الوجوب، وإذا اقترحوا أفكاراً غير تلك التي أسمعهم إياها رئيس الحزب أو الحركة أو التيار، فإن ضمير الواحد منهم يرتاح لأنه اقترح وأن ضمير رئيس الحزب لا بد سيتعب عندما يمر الوقت ويتم تنفيذ خطوة ما لم يأخذ باقتراح مَن اقترح حولها.
ربما هنالك خشية من فتْح النوافذ الزعامية بحيث إن الأخذ مرة باقتراح هذا المستشار أو ذاك واتباع الاقتراح أو وجهة النظر حتى بمناقشة أكثر رحابة ومن جانب الحلقات المتدرجة داخل الحزب أو الحركة أو التيار، ستجعل صيغة التشاور الأكثر رحابة تتطور إلى أن يصبح أقل معارضة وأكثر من مجرد إبداء وجهة نظر. وهذا شيئاً فشيئاً في نظر الزعامة لدى هذه الكيانات سيؤسس إلى ما قد ينتهي تصدعاً والتفكير بتغيير لا بد منه حرصاً على ديمومة الكيان الحزبي أو الحركي.
خلاصة القول، أنه لو كان هنالك مجال لتعدد الأجنحة داخل هذه الكيانات الحزبية التي أوردنا إشارات عنها لكانت الأمور ستختلف عما انتهت إليه أحوال لبنان في ظل هذه الكيانات الحزبية التي أربكت أحوال كيان الوطن. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كنا سنرى جناح الحمائم داخل «حزب الله» يبدي استغراباً أمام جناح الصقور لهذا التحالف الذي تم مع كيان حزبي لا يرى ما يراه الأمين العام للحزب والذين يرتادون مجلسه، وأن خط سير هذا التحالف تعطيل متدرج للبنان الدولة ومصالح الناس.
ولقد أثبتت نهايات غير سعيدة للتحالف بأن الاستعمال من جانب الطرفيْن لبعضهما بعضاً مآله فراق متدرج وعلى قاعدة حفظ ماء وجه التحالف. ولو كان متاحاً وجود جناح يتحفظ ومن باب احترام العقل وكانت هناك مناقشات رحبة في صفوف كل من الحليفيْن لما كان للبنانيين أن يعيشوا أربع سنوات عجاف مقموعين بمعادلة لم يثبت صوابها، وكيف ستكون واقعية تلك المعادلة القائمة على صيغة تحالف غير مكتمل صفاء النوايا ظاهرها أهمية العلاقة بين لبنان الشيعي بنسبة عالية ولبنان الماروني بنسبة الربع أو الثلث، أما باطن العلاقة فعبارة عن مجرد عملية بيع وشراء سياسي حقق تأجيلاً لطلاق آت وتضييعاً لبضع سنوات أثبتت نهاياتها أن الحليف العوني غير مؤمن بنسبة تسعين في المائة بما أُنشئ «حزب الله» من أجْله، وأن الحليف الشيعي غير قادر على تعديل النظرة غير الودية من جانب جمهور حليفه لما يتطلع إليه الحزب. وإذا ربح الطرفان وقتاً لكنهما ألحقا المعاناة الأكثر قساوة بلبنان الشعب كما الكيان.
بعد الآن لن يكون من المتيسر قيام تحالف بين «حزب الله» وكيان حزبي ماروني. وبعد الآن لن يكون من السهل إجراء الحوار الذي يجدي. لكن المشهد قابل لبعض التعديل في حال قرر الطيف الشيعي السياسي متمثلا برئيس حركة «أمل» تحويل الحركة إلى جناح مَن يتحفظ داخل الثنائي الشيعي، وهو موقف يريده ضمناً رئيس الحركة إلا أنه لا يفصح عنه وهو لو فعل ماضياً لما كان الذي حدث حاضراً... وسيحدث على ما يجوز التوقع آجلاً، مع ملاحظة أن الألوف السائرة وراء أسياد كُبراء الكيانات الحزبية الثلاثة (حزب الله. حركة أمل. التيار الوطني الحر) كانت وبقيت ترى أن العلاقة كانت بين الرؤوس الثلاثة في معزل عن المحازبين الذين لا يرون أي جوامع مشتركة تبرر هذا التحالف والذين يؤخذ رأيهم عند عقد التحالفات وإنما عليهم القبول بما أراده الذين في الأعلى.
وأما الأكثر سلامة فهو الكتابة في صفحة جديدة وناصعة البياض. وربما الأكثر جدوى هو أن يتاح للأجنحة اليمين منها واليسار والوسط فرصة الرفرفة آمنة في فضاء الكيانات. والله الهادي والوالي والباقي.