لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

المغرب وتدبير المستقبل وجعل الأزمة فرصة للتنمية

ما يُستشَف من مشروع قانون المالية المغربي (الموازنة) لعام 2023 هو أن الاقتصاد المغربي اكتسب مناعة مهمة، جعلته يواجه توالي الأزمات بقوة وصمود وعناد مجتمعي إيجابي.
لقد كان المغرب وما زال يواجه الأزمات بالاستثمار في المستقبل؛ هذه مقاربة يسميها الاقتصاديون «مقاربة ضد الدورات» أي أنه لا يتم سَنُّ سياسات للتقشف في زمن الأزمة خصوصا فيما يخص الاستثمار. بل تتم مضاعفة المجهود الاستثماري العمومي والذي سيصل السنة المقبلة مثلا إلى حوالي 30 مليار دولار، وهذه المقاربة ليست فقط عبارة عن ثقة في المستقبل ولكنها إيمان قوي بقدرة المغرب والمغاربة على تجاوز الصعاب بإرادة وقوة وتبصر.
المغرب ليس في منأى عما يشهده العالم من أزمات متوالية منذ سنوات، وما قامت به الحكومة من تدخل لدعم الفلاحين المتضررين من الجفاف (وصل إلى حوالي مليار دولار)، والتأثير في استقرار الأسعار عبر الدعم المباشر للنقل، والرفع من أجور الموظفين، ودعم أسعار الماء والكهرباء والغاز البوطان والسكر والقمح اللين، والاستمرار في دعم التمدرس من خلال التحويلات المباشرة، كل هذا جعل وقْعَ ارتفاع الأسعار يبقى في حدود متحكم فيها رغم أنها تبقى مرتفعة بالنسبة للقدرة الشرائية للطبقات الدنيا.
مقاربة الحكومة للأزمة كانت على العموم ناجعة ولم تسقط في الارتجال، ولا في الحلول السهلة التي ليس لها تأثير على قدرات الطبقات الاجتماعية المتضررة. ولكن الظرفية مع ذلك سؤال الطبقة السياسية حول السياسة الطاقية وحول الأمن الغذائي. تسريع الانتقال الطاقي نحو الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر والطاقات البديلة غير الملوِّثة ، بما فيها الطاقات النووية، هو السبيل الوحيد لتحقيق الاكتفاء الطاقي على المديين المتوسط والبعيد.
عاهل البلد دعا أخيرا إلى تسريع الانتقال الطاقي وأعطى الضوء الأخضر لمباشرة تصفير الكربون على مستوى سلاسل إنتاج الأسمدة واستعمال الطاقات المتجددة والنظيفة لتحلية مياه البحر لأغراض الشرب والصناعة.
الأسمدة الخضراء والبحث والتنمية التي ترافقهما من أجل إيجاد الحلول لدعم الإنتاج الزراعي في المغرب وأفريقيا من شأنهما تقوية حظوظ المغرب والبلدان الأفريقية في تحقيق أمنها الغذائي. وهذا يعني دعم الانتقال إلى جيل أخضر مقاوِل ومعتمِد على زراعة عصرية ومستدامة كما هو مسَطَّر لذلك في مخطط «الجيل الأخضر». لكن التحولات المناخية تقتضي من الحكومة المغربية إعادة توجيه الفلاحة نحو منتوجات غير مستهلِكة للماء وكفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي وكذا الخالقة لقيمة مضافة قابلة للتصدير.
ومن أجل دعم ولوج السكان للماء الصالح للشرب، وكذا دعم السقي الزراعي خصصت الحكومة مليار دولار لضمان تعبئة الماء الصالح للشرب والسقي، عبر إنشاء محطات لتحلية مياه البحر تشتغل بالطاقات المتجددة، وعبر طريق سيار للماء من الشمال إلى الجنوب، وإعادة تثمين المياه العادمة، وطبعا بناء السدود.
سياسة الإرادة التي تتبناها الدولة المغربية تتمثل كذلك في ورش الحماية الصحية والتعويضات العائلية والتعويض عن فقدان الشغل والحق في التقاعد، وهو مشروع مهيكِل بامتياز أطلقه الملك محمد السادس، وانخرطت فيه الحكومة منذ اليوم الأول. ما يجب التأكيد عليه في هذا الإطار هو ضرورة ضمان استدامة الصندوق الخاص بالتغطية الاجتماعية، واستمرارية الموارد المخصصة له وكذا تحسين العرض الصحي وتجويده وتطوير حكامته.
إن التغطية الاجتماعية استثمار يتوخى تحسين قدرات الطبقات الدنيا والمتوسطة، وهي القدرات التي من دونها لا يمكن لها أن تمتلك الوسائل لتحقيق ذاتها ومواجهة رهان التنمية. والتعليم كذلك استثمار في قدرات الأجيال الناشئة. فقد وصلت ميزانية التعليم هذه السنة حوالي سبعة مليارات دولار، وتبنت الحكومة بموجبها برنامجا يتمثل في تحسين فضاء المدرسة والقسم والرقي بالتجهيزات، وإحداث قطيعة نوعية في طرق التدريس والمناهج وفلسفة التلقين والتعلم، وسن سياسة تتوخى تحفيز رجال ونساء التعليم لضمان انخراطهم في الإصلاح، وتجويد حكامة القطاع، واعتماد مبدأ المسؤولية والمحاسبة على مستوى المدارس.
هذا استثمارٌ في الرأسمال البشري استراتيجي ومهم، وفي الوقت ذاته، فإن الرأسمال المؤسساتي ليس أقلَّ أهمية. فتقوية دور المؤسسات وإصلاح الإدارة عبر الرقمنة وتبسيط المساطر وتوضيح الأدوار والمسؤوليات وإعمال مبدأ دولة الحق والقانون وإصلاح منظومة العدالة ودعم دور المجتمع المدني والجماعات والجهات وكذا مؤسسات الحكامة، كلها تصب في تعزيز بناء دولة متينة الدعائم والمقومات. من هذا الجانب يجب النظر إلى إقدام الحكومة على مراجعة القانون الجنائي والمسطرة الجنائية والمسطرة المدنية وكذا تخصيص مناصب شغل للهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة على أنها دعم للرأسمال المؤسساتي المغربي. المطلوب كذلك هو ضرورة مراجعة دور الجماعات المحلية (البلديات) خصوصا القروية منها وإصلاحها وتجميعها وكذلك بإعطائها نفَساً جديداً وجعلها قابلة للحياة.
من جانب آخر، فإن مشروع قانون المالية المغربي لسنة 2023 كان مناسبة لتنزيل مخرجات المناظرة الجبائية خصوصا ما تعلق منها بالضريبة على الدخل والضريبة على الشركات.
إن الإجراءات التي تم اتخاذها تصب في إصلاح جذري لمنظومة الضريبة على الدخل لتكون أكثر عدلا وأكثر نجاعة وغير ضارة بذوي الدخول الدنيا.
أما إصلاح الضريبة على الشركات فهو يتوخى التوحيد والعدالة الضريبية وتوسيع الوعاء وإعطاء جاذبية أكثر للمغرب كوجهة استثمارية. وفي انتظار استكمال هذا الورش عبر إصلاح الضريبة على القيمة المضافة السنة المقبلة، فإن الحكومة والبرلمان مُصِراَّن على ضرورة تعميم مبدأ الاقتطاع من المنبع مع إظهار ليونة فيما يخص مهناً بعينها مثل المحاماة وغيرها.
بعض من الإجراءات الضريبية أتت في إطار سعي الحكومة والفرقاء لمأسسة الحوار الاجتماعي وتنزيل مخرجات الجولة الأولى منه المنعقدة في غضون هذه السنة.
وتبقى الزيادة في الأجور، والرفع من الحد الأدنى للأجور، والرفع من نسبة الترقيات، وخفض الحد الأدنى للمعاش والزيادة في أجور العاملين في قطاعي التعليم والصحة هي أهم مخرجات الحوار التي أنزلتها الحكومة من خلال مشروع قانون المالية لـ2023. في المقابل، يؤكد البرلمان ومعه الحكومة على ضرورة إخراج قانون الإضراب وقانون النقابات إلى حيز الوجود، وفتح سوق الشغل وتليينها لتساهم أكثر في الرفع من النمو الاقتصادي.
إن قانون المالية هو مناسبة سنوية لإغناء النقاش العمومي حول توجهات الحكومة، وحول قضايا سياسية وحقوقية واقتصادية تهم شرائح عريضة من المجتمع. النقاش الصاخب الذي يرافقها والإضرابات والاحتجاجات والوقفات هي مسألة صحية، وتدل على اهتمام مجتمعي بالاقتصاد والمالية العمومية وبآليات التدخل الحكومي لتوجيه الإنفاق والاستثمار ولتدبير مناخ الأعمال. ما هو أساسي هنا هو أن الأزمة لم تُثْنِ المغاربة برلمانا وحكومة ورأيا عاما عن الانخراط في تدبير المستقبل، وهذه مسألة إيجابية وأحسن وسيلة لجعل الأزمة فرصة للتنمية في زمن ما بعد الأزمة.