سانديب جوهر
TT

تراكم الخبرة والتقدم في العمر

منذ وقت قريب، قرأت مقالاً عن طبيب يبلغ من العمر 100 عام، يُدعى هوارد تاكر، لا يزال يمارس الطب في كليفلاند. بدأ د. تاكر العمل طبيباً للأعصاب عام 1947، عندما كان هاري ترومان رئيساً للبلاد.
ورغم أنه يعد بوضوح مثالاً متطرفاً، فإن د. تاكر يمثل اتجاهاً ديموغرافياً مهماً؛ فالولايات المتحدة لديها عدد متزايد من الأطباء الأكبر سناً. حتى مع تجاوز أطباء جيل ما يطلق عليه «طفرة المواليد» (في إشارة إلى مواليد الفترة من منتصف الأربعينات حتى منتصف الستينات) سن التقاعد، يختار كثيرون منهم الاستمرار في ممارسة الطب. وخلصت دراسة استقصائية عام 2020 إلى أن ما يقرب عن ثلث الأطباء المرخصين في الولايات المتحدة يبلغون من العمر 60 عاماً أو أكثر، ما يشكل ارتفاعاً عن الربع عام 2010.
ونظراً للمستويات المقلقة من الإرهاق والاستنزاف في صفوف القوى العاملة بمجال الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، فإن هذا الاتجاه لا يمكن رفضه تماماً. من جهتها، توقعت رابطة الكليات الطبية الأميركية حدوث نقص يقدر بـ38000 طبيب أو أكثر خلال الـ12 عاماً المقبلة. ووجدت دراسة استقصائية حديثة للعاملين في مجال الرعاية الصحية أن خُمس الأطباء (وعدد أكبر من الممرضين) يفكرون في ترك عملهم في غضون عامين. وعليه، فإن وجود أطباء من كبار السن أفضل من عدم وجود أطباء على الإطلاق.
ومع ذلك، فإن الشيخوخة تؤدي حتماً إلى تدهور جسدي وذهني، ما قد يؤثر على أداء الطبيب ويعرض المرضى للخطر. جدير بالذكر هنا أنه يُطلب من مراقبي الحركة الجوية التقاعد في سن الـ56. ويجب على طياري الخطوط الجوية التوقف عن الرحلات الجوية التجارية في سن الـ65. أما الأطباء فلا يواجهون مثل هذه القيود، على الرغم من أن قراراتهم مهمة أيضاً لحياة الناس. والسؤال هنا؛ هل ينبغي لهم التزام قيود مشابهة؟
وبصفتي طبيباً، أعتقد أن سن التقاعد الإلزامي سيكون حلاً فجاً وغير عادل. وقد يكون النهج الأفضل فرض تقييمات دورية لمستوى الكفاءة (مثلاً، كل سنتين أو 3 سنوات) بعد سن معينة (مثلاً 65 أو 70)، بحيث تقيس اختبارات التقييم القدرات الذهنية والبدنية الأولية اللازمة لممارسة الطب.
قد تشمل اختبارات التقييم، على سبيل المثال، اختبارات عصبية نفسية للمساعدة في اكتشاف ضعف الإدراك منخفض المستوى، بالإضافة إلى اختبار للرؤية.
ومن المهم هنا أن نكون صريحين بشأن الشيخوخة. وتبعاً لنتائج دراسة حديثة، نشرتها دورية «جاما نيورولوجي»، فإن واحداً من كل 5 بالغين فوق الـ65 يعانون ضعفاً إدراكياً لا يتناسب مع التغيرات الطبيعية المرتبطة بالتقدم في العمر. وتزداد المشكلة سوءاً مع تقدمنا في السن. ويُعتقد أن نحو 40 في المائة من الأميركيين فوق الـ85 عاماً يعانون من ضعف إدراكي قابل للقياس. قد يكون العمر مجرد رقم، لكنه يرتبط في الواقع ارتباطاً وثيقاً بالتدهور الجسدي والعقلي.
الآن بعد أن بلغت الخمسين من عمري، أصبحت هذه القضايا أكثر إلحاحاً بالنسبة لي. وباعتباري ابناً شهد تردي حالة والده بسبب مرض ألزهايمر، يخالجني القلق حيال إمكانية تدهور حالتي في المستقبل. وباعتباري طبيباً، أعلم أنه لا يمكنني دوماً الاعتماد على زملائي الأطباء لدقّ ناقوس الخطر.
ومع ذلك، فإن التقدم في السن يمكن أن يجلب في الوقت ذاته فوائد كبيرة، بما في ذلك تراكم الخبرة وتعزيز القدرة على إصدار أحكام سديدة ـ وهي حكمة قد تعوّض قدراً معيناً من التدهور المعرفي. وقد عملت مع كثير من الأطباء الممتازين المتخصصين بمجال الباطنة الذين مارسوا الطب لما بعد الثمانين من العمر. بجانب ذلك، فإن العمر لا يعد بأي حال من الأحوال العامل الوحيد في توقع التدهور المعرفي؛ هناك كذلك الأمراض والإدمان ونقص الدعم الاجتماعي أو الأسري. كما أن الشباب، بدوره، ليسوا ضمانة للكفاءة. عندما كنت أعمل مع أطباء في الستينات من العمر بدأوا في ارتكاب أخطاء غير معهودة، إلا أنني التقيت كذلك بأطباء في الثلاثينات من العمر لا أثق باضطلاعهم برعاية أحد أفراد عائلتي. وعليه، فإن العمر ليس كل شيء.
بالنظر إلى هذا التباين، تبدو مسألة التقاعد الإلزامي على أساس العمر غير عادلة، ناهيك عن كونها غير عملية من الناحية السياسية. (ليس من المستغرب أن تعارض الجمعية الطبية الأميركية بشدة إجبار الأطباء الأكبر سناً على التقاعد). ومع ذلك، فإن ترك قرار موعد التقاعد للأطباء، الذين يحتمل أن يكونوا ضعيفين، ينطوي على إشكالية لا تقل أهمية. وعليه، تبدو تقييمات الكفاءة الدورية الإلزامية فكرة جيدة.
وبطبيعة الحال، يجب التحقق من صحة الاختبارات المستخدمة لإجراء مثل هذه التقييمات وفحصها لضمان الشفافية والإنصاف. ويجب كذلك تفسير النتائج في سياق كل طبيب على حدة؛ بمعنى أن حدة البصر أو القدرة على التحمل المطلوبة لإجراء جراحة معقدة تختلف عن تلك المطلوبة لأداء مهام مكتبية، على سبيل المثال.
وإذا كشفت نتائج الاختبار ضعفاً كبيراً لدى الطبيب المعني، ينبغي النظر في استراتيجيات انتقالية مثل تقليل عبء العمل، وتجنب المشاركة في الجراحات الخطيرة والاستعانة بمساعدين، قبل إصدار قرار بضرورة التقاعد.
حتى اليوم، لا توجد بيانات منشورة عن عدد المستشفيات التي تفرض تقييمات الكفاءة للأطباء الأكبر سناً، لكن يبدو أنها ضئيلة للغاية، ربما بضع عشرات من المستشفيات على الأكثر في مختلف أنحاء البلاد.
من ناحية أخرى، ثمة عقبات أمام تنفيذ مثل هذا الاختبار على نطاق أوسع، تتمثل إحداها في رفض الطبيب. العام الماضي، أقرت الجمعية الطبية الأميركية بأهمية هذه القضية، ونشرت إرشادات للفحص على أساس السن، لكنها لم تدعُ لجعلها ملزمة.
ولا يخلو الأمر كذلك من معارضة قانونية، مثلاً تقدمت لجنة تكافؤ فرص العمل بدعوى قضائية ضد مستشفى ييل نيو هافن، عام 2020، بدعوى أن متطلبات الاختبار المعرفي والبصري للموظفين الأكبر سناً تنتهك القانون الفيدرالي لمكافحة التمييز، (وما تزال الدعوى منظورة أمام القضاء). ولا يخلو هذا الموقف الدفاعي من أنانية وقصر نظر. وفي مجال الطب، يجب أن تكون سلامة المرضى الشغل الشاغل.
والآن، لماذا لا نطلب تقييمات الكفاءة لجميع الأطباء؟ لماذا تبدأ فقط في سن 65؟ ببساطة، لأن سناً أصغر من شأنه أن يزيد بشكل كبير من فرصة الإيجابيات الكاذبة، بالإضافة إلى فرض ضغوط كبيرة على موارد المستشفى من دون داعٍ. بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأطباء الأصغر سناً اجتياز اختبارات الشهادات الدورية التي تختبر مستوى معرفتهم في تخصصهم الطبي الخاص.
ولا يقتصر الأمر على المجال الطبي، إنما يجب كذلك توسيع نطاق اختبارات الكفاءة على أساس العمر، ليشمل المهن الأخرى، التي يمكن أن يؤدي فيها الضعف المرتبط بالتقدم في العمر إلى إلحاق ضرر جسيم بآخرين، مثل القانون والمحاسبة حتى السياسة، ذلك أنه لن يكون من العدل أو اللائق أن يجري استثناء الأطباء بإخضاعهم لمثل هذه التقييمات.
مع تقدم عمر القوى العاملة من الأطباء في الولايات المتحدة، فإن الأمر أصبح مجرد مسألة وقت، قبل أن تفرض وكالات خارجية التقاعد الإلزامي أو بعض الحلول البيروقراطية الأخرى المصممة بشكل فظّ. وعليه، يجب أن تسارع المستشفيات إلى صياغة برامج مدروسة ودقيقة لتقييم الكفاءة قبل أن يحاول أي شخص الاضطلاع بهذا الأمر نيابة عنا. والمؤكد أن هذا الأمر سيخدم مصالح المرضى والأطباء على حد سواء.

* طبيب قلب في نيويورك ويكتب عن الرعاية الطبية والصحة العامة
* خدمة «نيويورك تايمز»