د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

إقامة النظام الاقتصادي الدولي المرتقب

في ضوء التغيير الذي يحصل في العالم، وفي إطار سعي الصين وروسيا ومجموعة «بريكس» (وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) لبناء نظام اقتصادي دولي جديد، وباعتبار الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، أدركت التجربة الصينية في فترة مبكرة الاختلافات بين الشعارات والواقع، وبين النظريات والتطبيق، فاختطت لنفسها طريقاً خاصاً، وقدمت نموذجاً بديلاً من خلال تجربة من النجاحات؛ نموذجاً يعتمد على استنهاض قواها ويطور بناها التحتية، رابطاً أرجاءها الواسعة بشبكة فعالة للمواصلات والاتصالات، ولتتبنى أنماط العمل ووسائل الإنتاج الأنسب لأوضاعها وقدراتها، ولتصبح بضائعها العالية الجودة والرخيصة الكلفة أساساً لتقدمها في العالم، إذ أعجبت شعوب الشرق والعالم الثالث بالنهضة الصينية وبمشروع «الحزام والطريق».
فأميركا وحلفاؤها لم ينهضوا دفعة واحدة، بل نهضت فيه مناطق معينة، وسحبت كامل فضائها معها من خلال الارتباطات الخلفية والأمامية، كما أن «الحزام والطريق» ليس مشروعاً جديداً للسيطرة على العالم، بل هو المشروع الدولي الذي انتظمت فيه علاقات القارات والشعوب منذ زمن بعيد.
وفي إطار السعي لإقامة نظام دولي جديد، سعت الصين وروسيا للتعاملات التجارية من خلال اليوان والروبل، إذ أعلنت شركة «غازبروم» الروسية، أنها وقعت اتفاقاً مع شركة البترول الوطنية الصينية لبدء بيع الغاز الروسي باليوان الصيني والروبل الروسي بدلاً من الدولار، إذ إن دفعات شحنات الغاز ستكون مناصفة بين العملتين الروسية والصينية. ويوصف هذا الحدث بأنه تاريخي، ليس لأسواق الطاقة الدولية فحسب، بل لمجموعة «بريكس» كذلك، حيث يعد هذا الاتفاق مؤثراً لأسباب عديدة، منها أن التبادل التجاري بين الصين وروسيا شهد تطوراً كبيراً منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، لا سيما في النفط والغاز.
ويعد هذا القرار في مصلحة جميع الأطراف، وبشكل خاص في مصلحة روسيا الساعية إلى الابتعاد عن عملات الدول «غير الصديقة»، حسب وصفها، منذ فرض العقوبات عليها، إذ يساهم الابتعاد عن العملات الغربية (الدولار واليورو والإسترليني) في دعم الخزينة الروسية من مصادر دخل موثوقة (كما تصفها موسكو)، كما أنه عامل مساعد في استقرار الروبل والأنظمة البنكية التي بدأت بالفعل بإصدار قروض باليوان الصيني، واستغنى بعضها عن نظام التعامل المالي «سويفت»، كما توافق هذا الحدث مع مساعي الصين التي بدأت منذ أكثر من عقد لتخفيف هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي في إطار السعي لنظام اقتصادي دولي جديد.
إن هذا القرار قد يكون أُولى لبنات بناء الاقتصاد الدولي الجديد، فالصين وروسيا و«بريكس» ومعها الدول العربية وتجمعات إقليمية أخرى، لم تعد ترضى بالرضوخ إلى أميركا وأوروبا وحلفائهما، وبدأت بالفعل بتشكيل نظام اقتصادي بديل منذ أول اجتماع لمجموعة «بريكس» عام 2009، إذ رغم أن تقدم المجموعة كان بطيئاً نسبياً، فإن الضغوط من قبل أميركا وأوروبا واليابان على الصين وروسيا خلال السنوات الأخيرة أعطت دافعاً لهما لتسريع عجلة التقدم في المجموعة، كان آخرها الإعلان عن التعاون لإنشاء سلة عملات جديدة، كما أن العقوبات الغربية جعلت العديد من الدول تفكر في بدائل تجعلها أقل اعتماداً على أميركا وحلفائها وأكثر تنويعاً لاحتياطياتها المالية، ومما لا شك فيه أن العديد من الدول ستقدم على شراء الغاز الروسي والمنتجات الصينية بالروبل واليوان حالما يصبح هذا الأمر معتاداً، مع مرور الزمن وانسجاماً مع ما يحصل في العالم من تغيير.
ويسعى العرب من خلال جامعة الدول العربية، لأخذ مكانهم المهم في تشكيلة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، طبقاً لإمكاناتهم، إذ تُعد الموارد الطبيعية (النفط والغاز والموارد البشرية والقوى الناعمة) المصدر الأول من مصادر قوة النظام العربي، حيث تملك المنطقة العربية إمكانات هائلة من هذه الموارد، من حيث الإنتاج أو الاحتياط، فهي تحتل مواقع متقدمة من إنتاج الحديد والفوسفات وغيرها من المعادن التي تقوم عليها الصناعات الحديثة، وإن كان المورد الأهم بينها هو النفط، إذ إن نسبة احتياط النفط المؤكد للدول العربية إلى الاحتياط الدولي يبلغ 55.7 في المائة عام 2021، و26.5 في المائة من الغاز، ما يجعلها تأخذ دوراً مهماً في النظام الاقتصادي الدولي الجديد.
في الختام، تسعى كل من الصين وروسيا ومعهما دول «بريكس» والدول العربية وبقية العالم لإنشاء آلية دولية بديلة عن مؤسسات «Bretton Woods»، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إذ إنه من الأسهل إنشاء نظام جديد بدلاً من إصلاح نظام غير فاعل موجود، إضافة إلى إنشاء منظمة تجارة دولية جديدة تستوعب كل المتغيرات الاقتصادية الحاصلة في العالم، تحل محل منظمة التجارة العالمية، وهذه هي مقدمات لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد.