فاي فلام
TT

الحرب النووية الصغيرة قد تعني مجاعة جماعية

أسوأ سيناريوهات المناخ في القرن الحالي ليس الاحترار العالمي البالغ 4 حتى 5 درجات مئوية، بل الشتاء النووي الذي من شأنه أن يسفر عن التبريد العالمي حتى 12 أو 13 درجة مئوية!
قد يحدث هذا في غضون أسابيع من بداية الحرب النووية، مع انبعاث الدخان من المدن المحترقة ليحجب أشعة الشمس. وسوف تكون النتيجة مجاعة هائلة، مع انهيار السلسلة الغذائية في المحيط، وفشل المحاصيل العالمية.
يقول آلان روبوك، عالِم المناخ بجامعة روتجرز والمؤلف المشارك لدراستين جديدتين عن الانهيار الزراعي وتدمير المحيطات: «في أغلب السيناريوهات، قد ينتشر الجوع في معظم أنحاء العالم ويأتي على حياة مئات الملايين من البشر». ويتوقف مدى سوء الكارثة على حجم تبادل الضربات النووية، حتى اندلاع حرب نووية «صغرى»، بين الهند وباكستان على سبيل المثال، من شأنه التسبب في بلوغ مرحلة التبريد العالمي الناجم عنها تجويع مئات الملايين من الناس على مستوى العالم. وفي حرب «أكبر» تضم روسيا والولايات المتحدة، اللتين تمتلكان أسلحة أكثر قوة ومخزونات أضخم، من المرجح أن تتجاوز حصيلة القتلى نصف سكان العالم.
يعني ذلك أن أي دولة تتأهب لشن الضربة الأولى سوف تكون مستعدة لأن تكون قاتلاً جماعياً، كما يقول روبوك، وأي شخص على استعداد لشن الضربة الانتقامية يوافق بالضرورة على أن يكون انتحارياً.
الدكتور روبوك، من بين عدد من الخبراء الذين يعتقدون أن اتخاذ موقف عدواني رداً على التهديدات النووية التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس موقفاً رادعاً، وإنما يُعرض العالم لمزيد من المخاطر الكارثية. دانييل إلسبيرغ، المُخبر الشهير الذي سرق مئات الصفحات من الأسرار النووية ضمن «وثائق البنتاغون»، يجادل بنفس الطرح في كتابه عام 2017 بعنوان «ماكينة اليوم الأخير».
يقول الخبراء الذين تحدثت معهم إن نموذج الردع و«التدمير المؤكد المتبادل» يستند إلى صورة عفا عليها الزمن، ولا يأخذ في الاعتبار بالقدر الكافي خطر إطلاق الإنذار الكاذب بتوجيه ضربة أولى يلحقها التصعيد، أو الكارثة المناخية الناجمة التي قد تسفر عن مصرع المليارات. وتماماً كما أدى تحسين النمذجة المناخية الحديثة إلى صقل معرفتنا بالاحترار العالمي، فقد سمحت كذلك للباحثين بفهم أفضل للتكاليف الكارثية للشتاء النووي.
الحديث عن الإبادة الجماعية من هذا المستوى يمكن أن يجعل الناس يشعرون بالعجز، ولا ينبغي لهم ذلك. فمن الممكن للتغييرات السياسية العمل على الحد بشكل كبير من مخاطر وقوع كارثة نووية.
لا بد لمجموعة واحدة من استهداف ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، ذلك لأن تغير المناخ الناجم عن الانبعاثات يمكن أن يزيد من خطر نشوب الحرب النووية بسبب زيادة عدم الاستقرار السياسي. ومن جانبها، قالت كريستين بارثيمور، رئيسة مجلس المخاطر الاستراتيجية، في خطابها أمام قمة الأمم المتحدة للمناخ (COP 26) السنة الماضية: «الحر الشديد، والجفاف الشديد، والكوارث الرهيبة، ومناسيب البحار المتزايدة، تخلق موجة تلو أخرى من التحديات أمام المجتمعات حول العالم، وهي بالتالي تؤثر في المجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية للأمم، كما تؤثر أيضاً على العلاقات بين الشعوب».
من الأهمية بمكان أن تعمل مجموعة أخرى من الإصلاحات على جعل السياسة النووية القائمة أقل تهديداً. ولعل السبيل إلى الشروع في ذلك يتلخص في تبني مزيد من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، لسياسة «عدم البدء باستخدام الأسلحة النووية»، أي التعهد بعدم استخدام الأسلحة النووية إلا انتقاماً لضربة نووية أولى.
فشلت الولايات المتحدة، خلال الشهر الماضي، في تبني مثل هذه السياسة ضمن النسخة الأخيرة من تقرير مراجعة الموقف النووي، وهو التقرير الذي يُصدره كل رئيس جديد منذ إدارة كلينتون. ولا يبدو ذلك خطراً فحسب، وإنما غير أخلاقي أيضاً. ويبدو أن بوتين كان يهدد باستخدام الأسلحة النووية للمرة الأولى أثناء اجتياح أوكرانيا، ذلك التهديد الذي كان يراه العالم قاسياً بكل تأكيد. لماذا إذن تحتفظ الولايات المتحدة بالحق في بدء الحرب النووية؟
سألت فرانك فون هيبل، من قسم العلوم والأمن العالمي في جامعة برينستون، فأخبرني أنه برغم أن الرئيس بايدن أعرب عن تفضيله لسياسة «عدم البدء بالاستخدام»، فإنه تلقى معارضة من وزارة الدفاع، ومن بعض حلفائنا، «الذين يعتقدون أنه لا ينبغي لنا استبعاد أي خيارات مطروحة».
المشكلة أن وزارة الدفاع الأميركية، وبعض قادة الحلفاء، ربما لا يفكرون بالقدر الكافي في علوم تغير المناخ في مرحلة ما بعد النووي. المرحلة المبنية على الفيزياء والنمذجة المناخية المقبولة، كما قال فون هيبل، الذي أضاف: «كان البنتاغون يرفض ذلك ويصفه بأنه (هواية طفولية) لدى مجموعة من العلماء».
حتى في غياب سياسة عدم البدء بالضربة النووية الأولى، ينبغي على الولايات المتحدة إزالة «حالة الاستنفار» عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في صوامعها الأرضية. وقد قال فون هيبل إنه في الآونة الراهنة، إذا كان هناك تحذير من هجوم نووي روسي، فإن أمام الرئيس الأميركي حوالي 10 دقائق ليقرر ما إذا كان سيرد الضربة من عدمه، وبالتالي إنهاء العالم كما نعرفه.
هذا يترك العالم مكشوفاً أمام ما يسمى الحرب النووية العرضية، وهي حالة سخيفة، ولكنها معقولة تماماً لإنهاء الحضارة عبر سلسلة من سوء الفهم. لقد اقتربنا من ذلك قبلاً، وتزداد المخاطر مع تزايد التوترات الدولية.
يقول بافيل بودفيغ، الروسي الأصل، والباحث المستقل في جنيف، ودارس قضايا الأمن النووي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعتي ستانفورد وبرينستون، إنه من قبيل المغالطة مساواة الموقف العدواني مع الاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية. وقال: «يعتمد مبدأ الردع على إظهار امتلاك القدرة على قتل مزيد من الناس أكثر من خصمك. لكن إذا حاول الغرب ردع روسيا بهذه الطريقة، فإنه يحتاج إلى إثبات أن عواقب الكارثة العالمية سوف تكون أسوأ بالنسبة لروسيا، وليس من المرجح أن يكون هو الحال. ويعود ذلك إلى مقارنة آلان روبوك بالتفجيرات النووية الانتحارية».
وقال: «لا أعتقد أن هناك أي سبب يدعو للاعتقاد بأن التدمير المؤكد المتبادل هو الذي يمنع روسيا من استخدام الأسلحة النووية. وإنما أعتقد أنها حقيقة أن أي استخدام للأسلحة النووية هو أمر غير مقبول تماماً على النطاق العالمي تقريباً».
وقال إنه لا يعتقد أن بوتين سوف يستخدم ما يسمى الأسلحة النووية التكتيكية في أوكرانيا، نظراً لأن هذه الفكرة جاءت بالأساس لمهاجمة تجمعات كبيرة من القوات، «وأوكرانيا ليست هذا النوع من الحروب». لكنه قلق من أن مجرد الحديث عن ذلك يُعد تطبيعاً لاستخدام الأسلحة النووية. «يجب أن تكون الرسالة؛ إذا استخدمتم الأسلحة النووية، فأنتم في منطقة إجرامية». وقال إنه يتعين على العالم اتخاذ موقف عدواني، وإنما بطريقة مختلفة؛ موقف شديد الصرامة في إدانة عالمية لاستخدام الأسلحة النووية.
بدأ الأميركيون في إدراك لأي مدى ينبغي لنا المطالبة باستقرار المناخ، كما بدأت عقود من الضغوط النشطة في تحريك عجلة التغير المناخي أخيراً. وينبغي لنا أيضاً المطالبة بموقف نووي واضح، تُبذل خلاله قصارى الجهود لمنع التهديد النووي لغلافنا الجوي. وينبغي علينا المطالبة أيضاً بألا نعتبر حياتنا مجرد «أضرار جانبية» في حرب يستحيل كسبها.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»