أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

محنة اللجوء السوري في لبنان!

لم تخفِ دموع عينيه امتعاضه وغضبه مما تعرض له من إذلال حين رفض صاحب أحد الأفران اللبنانية بيعه الخبز لأنه سوري، رفع رأسه ونظر بتحسر إلى أخته، وهي تكرر السؤال عليه، إلى أين تعود؟ هل مَسّك الجنون؟ وأضافت متفهمة؛ نعم الحياة هنا بغيضة، لكنك تعرف أن بقاءنا هنا أقل سوءاً، وتعرف أيضاً كم هم كثر اللبنانيون الذين تعاطفوا معنا ولم يتأخروا عن مدّ يد العون لنا في الصعاب.
أمرٌ مفهومٌ تفاقم خوف اللاجئين السوريين، ليس فقط من عوامل الطبيعة ببردها وقيظها، أو من تراجع المعونات وتردي شروط حياتهم في المخيمات وضياع مستقبل الملايين من أطفالهم، وإنما أيضاً من تغير موقف مجتمعات الاغتراب منهم، وهو أمر مفسر، شعور السوريين بالمرارة والقهر من مواقف نابذة لهم، وأحياناً عدائية من بعض اللبنانيين، وصلت في مرات كثيرة إلى استسهال معاملتهم معاملة لا تليق بالبشر، وأحياناً كالمنبوذين، لكن ما ليس مقبولاً أن يصل الأمر إلى تعميم هاشتاغ «لا للسوري في لبنان» على مواقع التواصل الاجتماعي، وتجرؤ ميشال عون، أعلى سلطة في البلاد، والحليف «الاستراتيجي» لـ«حزب الله»، على التحريض لإخراجهم من لبنان، يحدو ذلك التدخل المباشر لـ«حزب الله» في الصراع الدموي السوري، وانتماء الكتلة الرئيسة من اللاجئين إلى «مذهب» تلاحقه لعنة الإرهاب وتلصق به كل عملية تقوم بها جماعات «النصرة» و«داعش» فوق الأراضي اللبنانية، ما سهّل إلى حد كبير تغذية مناخ اجتماعي ونفسي مناهض لوجودهم، ربطاً بتنامي الضغوط عليهم من أطراف سياسية واقتصادية لبنانية وأجهزة أمنية، تميل إلى تطبيع علاقاتها مع النظام وإرضائه.
كان قد صارح أخته بعد عودته حانقاً من الفرن، بأنه قرر تسجيل اسمه مع الراغبين في العودة إلى سوريا، وأضاف ربما مشجعاً نفسه؛ لقد أصبحوا مئات، وهناك تطمينات بأنهم لن يتعرضوا للأذى أو الاعتقال، ثم بادرها بالسؤال؛ لماذا نخاف؟ ألم نخرج من البلد، وأنت في عمر 10 سنوات وأنا في التاسعة؟ هل كنا نعي ما يدور حولنا حتى نتحمل أي مسؤولية؟
وبسؤال صريح، قاطعته الأخت حازمة؛ ألا تعتقد أن المتربصين بنا كثر، وأن عملاء النظام السوري هنا لا بد أنهم أرسلوا تقاريرهم عن حياتنا ومواقفنا؟ أي مصير ينتظرنا إن كان أحدهم قد وشى ببعض تهجماتنا وشتائمنا على النظام، أو بتعاطفنا مع المعارضين؟ هل هو واجب عليّ أن أذكّرك، في كل مرة تحل عليك فكرة العودة الشيطانية، بما حصل مع صديقك أحمد الذي خرج أيضاً وهو في عمرك؟ هل من خبر عن مصيره ومصير والده وأخيه بعد عام من رجوعهم إلى سوريا؟ ألم تزل أمه تلوب وتلهث إلى الآن وهي تنتقل من فرع أمن إلى آخر للسؤال عنهم؟ ثم أين المئات، الذين يرغبون في العودة؟ ألم تسمع أن الرقم الذي أعلنته السلطات اللبنانية في اليوم الأول عن أكثر من 700 شخص، لم يتجاوز العشرات، بإعلان السلطات نفسها، في اليوم الثاني؟ ثم مالت على رأسه بحنان وسألته، هل تتركني هنا وحيدة؟ أنت تعرف أنني لن أعود إلى ذلك الجحيم، إلى حيث أجبر كل يوم على النظر والابتسام لمن دفنوا أهلي وأختي تحت الأنقاض؟ ثم أين يمكن أن نسكن؟ وكيف نستعيد حقوق ملكية العائلة؟ ألم يدمروا ويحرقوا بيتنا بما فيه، ويستولوا على أرضنا؟ وألم يهددوا عمك خالد بالسجن والقتل إذا كرر مطالبته ببيته وأرضه؟
هي حقيقة لا تخفى على أحد أن الاستيلاء على كل ما يقع تحت اليد من بيوت وممتلكات بات في سوريا عرفاً سائداً عند أصحاب «الانتصار الكبير»، بينما ينتظر الويل والثبور وعظائم الأمور كل من يحاول استرداد حقه ويتجرأ على المطالبة بأملاكه، وخاصة في المناطق التي شهدت حصارات طويلة، والأخطر حين تكون ثمة نيات مبيتة لجماعات «مذهبية» معينة للاستيلاء على أحياء وبلدات تهمها دينياً وأمنياً، لخلق تجانس سكاني من النمط «المذهبي» ذاته، يعوّل عليه لتعزيز السيطرة.
شعرت الأخت لوهلة بأن حديثها لم يحقق ما ترجوه، ولم يثنِ أخاها عن التراجع عن قرار العودة، فبادرت متسائلة؛ هل فكرت في أحوال البلاد التي سنرجع إليها؟ كيف نستطيع توفير أبسط مستلزمات عيشنا؟ هل غابت من ذهنك حالة المجاعة التي يعيشها أهلنا هناك... عجزهم عن توفير الطعام واللباس والتدفئة... انعدام فرص العمل... سرقة المعونات التي تقدم لهم؟ هل نسيت الحكايات عن تعديات المسلحين وانتهاكاتهم لحقوق الناس وكراماتهم... عن مواطنين أبرياء، تعرضوا، لأسباب تافهة، للإذلال والابتزاز والأذى حتى القتل، من دون أن يطول المرتكبين أي حساب أو عقاب؟!
والحال، مع التأكيد على مسؤولية النظام تجاه تفاقم أزمة اللاجئين السوريين، أنه لن يغير موقفه العدائي منهم ومجاهرته بأنه لا مكان لهم أو حقوق في مجتمعه المتجانس، ومع التأكيد أيضاً على الدور السلبي للمعارضة السورية في التعامل مع هذا الملف، وعجزها خلال سنوات عن خلق قنوات صحية للتواصل والتعاضد مع اللاجئين، ربما لأنها تعتبر قضيتهم هامشية أمام أولوية العمل العسكري والسياسي، وربما لسهولة التهرب من مسؤوليتها تجاههم طالما يسهل تحميلها للنظام، وإذا أضفنا وقوع اللاجئين في لبنان تحت رحمة الانقسام المزمن في المجتمع اللبناني بين تيارين سياسيين متعارضين في الموقف من النظام السوري، وأضفنا أيضاً التراجع اللافت للمعونات والمساعدات الأممية لحماية اللاجئين وتمكينهم في الحياة، يمكن أن نتصور الحال والخيارات التي تنتظر هؤلاء السوريين المنكوبين في لبنان.
يصح اعتبار ما يعانيه اللاجئون السوريون في لبنان، وتراجع شروط حياتهم، وتنامي التعديات والتجاوزات المذلة بحقهم، أشبه بكارثة إنسانية، لكنها في الأسباب والنتائج، مسألة سياسية، والقصد أن الاهتمام بأحوالهم وما يكابدونه والتوجه لملاقاة آلامهم والضغط لتوفير أهم حاجاتهم الإنسانية، هو شرط لازم، لكنه غير كافٍ، ما دام لا يترافق بمسار سياسي لإطفاء بؤرة التوتر السورية، وإخراج القوات الأجنبية منها، ومعالجة جذور الصراع الدائر وفق القرار الأممي (2254)، بما يعني فرض حل يلبي تطلعات السوريين وحقوقهم، ويوفر الشروط الأمنية والسياسية والاقتصادية المشجعة لعودة كريمة لملايين اللاجئين إلى وطنهم وديارهم.