فارا ستوكمان
TT

أميركا حائرة بين تدفق المهاجرين والتعددية!

في فبراير (شباط) 2020، في خضم انتخابات رئاسية شرسة، اجتمعت مجموعة مثالية من المانحين من مختلف الأطياف الآيديولوجية للتخطيط لمشروع جديد طموح. أطلقوا على أنفسهم اسم «أنصار التعددية الجدد»، وتعهدوا بإنفاق مبلغ ضخم قدره 100 مليون دولار على مدى العقد المقبل لمحاربة الاستقطاب، من خلال تمويل التفاعلات وجهاً لوجه بين الأميركيين المنتمين لمختلف الفئات السياسية والعرقية والدينية.
ويرى أبناء هذه المجموعة أن إصلاح ما جرى اختراقه في الديمقراطية الأمريكية يتطلب أكثر من مجرد تغيير قوانين هوية الناخب أو شكل دوائر الكونغرس لدينا، وأنَّه يستلزم إقامة روابط شخصية عميقة من شأنها تغيير القلوب والعقول، وفي نهاية الأمر الثقافة الأميركية نفسها.
وتستند جهودهم إلى فكرة أساسية، مفادها أن كثيراً من الأميركيين يفتقرون إلى المهارات والفرصة حتى الرغبة في العمل معاً عبر خطوط الاختلاف نحو هدف مشترك. ويعتقد هؤلاء المانحون أن جزءاً من الحل يكمن في تبني فكرة قديمة جداً لم تعد ضمن الصيحات السياسية الرائجة؛ التعددية.
جدير بالذكر هنا أن مصطلح «التعددية الثقافية» جرت صياغته في أوائل القرن العشرين على يد هوراس كالين، فيلسوف يهودي اقترح المصطلح في خضم موجة ضخمة من المهاجرين من جنوب وشرق أوروبا. وجادل بأنه بدلاً عن محاولة القضاء على نزعتهم البولندية أو الإيطالية أو اليهودية، مثلما أراد كثير من البروتستانت من الأنجلوساكسونيين، يجب أن تكون أميركا «أمة من القوميات»، حيث يتعلم الناس العمل معاً عبر خطوط الاختلاف. وقال إن الحرية في أن تكون مختلفاً، ويظل في إمكانك المشاركة في الحياة السياسية، وتشكل جزءاً حيوياً من الكل.
ونظر كالين إلى الشعب الأميركي ليس باعتباره بوتقة تنصهر داخلها الأعراق المختلفة وتمتزج، ويتحول الجميع إلى نفس الحساء اللطيف، وإنما كأوركسترا، تتداخل فيها الأصوات المتميزة بانسجام.
وتعد هذه واحدة من الأفكار التي تغذي التعددية الجديدة. ورغم صعوبة العثور على شخصين يصفان هذا المشروع بالطريقة ذاتها، فإن احترام الاختلاف، وليس تجاوزه، يجري النظر إليه باعتباره أمراً أساسياً.
في زمنه، تعرض كالين لانتقادات شديدة من أولئك الذين اتهموه بالترويج لبلقنة البلاد. وأعلن عرضاً لاذعاً لكتابه في صحيفة «نيويورك تايمز» عام 1924 أن الأمة واجهت خياراً صارخاً؛ «هل ستبقى واحدة في الروح والتقاليد واللغة، أم أن تصبح منزلاً جماعياً يضم مجموعات غريبة؟» ولم يجرِ تبني أفكاره على نطاق واسع حتى ثمانينات القرن الماضي، مع ظهور فكرة التعددية الثقافية.
اليوم، يواجه مشروع «أنصار التعددية الجدد» مجموعة مشابهة من التحديات لتلك التي كتب عنها كالين منذ أكثر من قرن مضى. ويشكل تدفق المهاجرين من جديد المفاهيم السائدة حول هوية الأميركيين، وما يتطلبه الأمر لجعل الولايات المتحدة بلداً متناغماً وكاملاً.
في الوقت ذاته، يسود في أميركا شعور بالبلقنة على طول مجموعة من خطوط الصدع؛ الريف مقابل المدن، والشباب مقابل كبار السن، والديني مقابل العلماني، وبالطبع الأحمر مقابل الأزرق.
ومع ذلك، تبدو الانتقادات التي تواجه التعددية اليوم مختلفة، وبعيداً عن اعتبار التعددية فكرة شديدة الراديكالية، لا تبدو اليوم راديكالية بما يكفي في عصر التمرد والانقلابات المحتملة. ومع ذلك، تبدو التعددية أكثر أهمية من أي وقت مضى. ولا يمكن لديمقراطية أميركا متعددة الأعراق أن تعيش من دونها.
من جانبي، اكتشفت «أنصار التعددية الجدد»، هذا الصيف، بعد أن حضرت ورشة عمل عبر الإنترنت حول مجابهة الاستقطاب، استضافتها مجموعة تدعى «بريفر إنجلز». وقد عثرت على هذه المجموعة عبر الإنترنت، لرغبتي في التعرف على مزيد من المجموعات التي تجابه السياسات السامة السائدة.
شارك في تأسيس المجموعة بيل دوهرتي، مستشار العلاقات الزوجية في مينيابوليس. وتملك «بريفر إنجلز» فروعاً شعبية في جميع أنحاء البلاد ترمي إلى تعليم كل من المحافظين والليبراليين تحطيم الصور النمطية وتوضيح الخلافات دونما صراخ.
وداخل ورشة العمل التي حضرتها، تنافس أنصار الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول كيفية تنميط الجانب الآخر. واللافت أن جميع المشاركين تقريباً كانوا من البيض، ويبدو أنهم تجاوزوا الأربعين. وبدوا منفتحين على تجاوز الانقسامات القائمة بين الحزبين. وعليه، فإن المشاركين كانوا أهدافاً سهلة المنال. وقد خرجت من هذه الورشة وبداخلي شعور بالتفاؤل تجاه البلاد.
وأدركت حينها أنه ثمة نظام بيئي كامل من المجموعات، جرى إنشاؤه خلال سنوات رئاسة ترمب، مكرس لرأب الانقسامات. من بين هذه المجموعات «بيبلز سبر» التي تساعد الأفراد على إقامة مآدب عشاء، وفعاليات أخرى بهدف تعزيز المصالحات العرقية والسياسية. وهناك أيضاً مجموعة «وان سمول ستيب» التي تجمع مجموعة من الغرباء لإجراء محادثات مسجلة حول حياتهم. وتحرص مجموعة «أنصار التعددية الجدد» على تمويل جميع هذه الجهود.
كانت فكرة «أنصار التعددية الجدد» قد ظهرت في أعقاب انتخاب دونالد ترمب. من جانبها، قالت جينيفر روثبرغ، المديرة التنفيذية لمؤسسة «إينهورن كولابوريتيف»، التي تتخذ من نيويورك مقراً لها، إنها استمرت في تلقي اتصالات من أفراد يشعرون بالقلق إزاء مستوى الاستقطاب، ورأوا أن بإمكانهم إصلاح الأمر.
في نهاية الأمر، قرر حوالي 10 متبرعين التعاون واستقروا على اسم «أنصار التعددية الجدد»، الأمر الذي كان لأكثر من سبب، منها أن كلمة التعددية بدت حيادية في عصر اتخذ فيه كثير من الكلمات نكهة حزبية. وترمي المجموعة بوجه عام إلى تحويل التعددية إلى مجال متماسك، مثل الصحة العامة، في ظل معايير وممارسات محددة بوضوح يمكن تكرارها وقياسها وتحسينها.
ويبقى التساؤل الكبير؛ هل تستطيع مجموعة من المانحين الأثرياء تغيير الثقافة الأميركية من أعلى؟ كيف بالضبط يمكن تحقيق هذا؟ إذا كنت تحاول تغيير القانون، فأنت تقوم بتعيين أحد أعضاء جماعة الضغط، لكن لتغيير الثقافة الأميركية، بمن تستعين؟
ومع ذلك، فإن المجموعة تعمد إلى تعزيز رؤيتها. خلال الصيف، تقدمت بطلب لتلقي مقترحات منح من المجموعات القاعدية المشاركة في هذا العمل. وبالفعل، تدفق 800 طلب، وهو عدد ضخم للغاية يتعذر تمويله. كان ذلك عندما بدأ «أنصار التعددية الجدد» جهداً كبيراً لتحدي المانحين والضغط عليهم لتوفير مليار دولار على امتداد العقد المقبل لصالح جهود تعزيز التعددية، وهي مبادرة جرى إعلانها في قمة الوحدة بالبيت الأبيض في سبتمبر (أيلول).
من ناحيتها، قالت لي أوما فيسواناثان، المديرة التنفيذية لمؤسسة «أنصار التعددية الجدد»: «ثمة حاجة كبيرة، وكذلك فرصة كبيرة للغاية لدرجة أننا بحاجة إلى مزيد من الأعمال الخيرية لأخذ هذا الأمر على محمل الجد».
ويقر أشد «أنصار التعددية الجدد» حماسة بأنهم غير واثقين من أنهم سينجحون، لكن آمل أن يفعلوا ذلك. بعد كل شيء، الأوركسترا لا تبدو متناغمة بالصدفة، وإنما على الناس أن يتدربوا.
* عضو هيئة التحرير في «نيويورك تايمز»
* خدمة «نيويورك تايمز»