أظهرت اجتماعات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في المنطقة هذا الأسبوع أن واشنطن أصبحت من الناحية النظرية جزءاً من التوافق الدولي حول معظم جوانب الحرب على غزة وحل القضية الفلسطينية. ولكن رغم هذه القناعة تبدو الإدارة غير قادرة على التحرك لحل أي منهما.
فالإدارة الأميركية منزعجة من جرائم إسرائيل في غزة، ومحبطة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي يستمر في إحباط محاولات التهدئة ووقف إطلاق النار، متجاهلاً مصالح أميركا وأولوياتها في الوقت الحاضر، وأهمها احتواء الصراع حتى لا يستغله خصوم واشنطن الخارجيون (إيران وروسيا والصين)، ومنافسو بايدن في الانتخابات القادمة.
ولكن الإدارة الأميركية، بحجة أن ذلك يجعلها أكثر قدرة على الضغط على إسرائيل، تتفادى إلقاء اللوم عليها علناً، وتستمر في تزويدها بالأسلحة التي تدير بها الحرب في غزة، وتمنع مجلس الأمن من اتخاذ قرارات حاسمة لوقف الحرب، وتسعى لوقف إجراءات محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية بحق إسرائيل.
بعض المواقف التي تتخذها إدارة الرئيس جو بايدن فرضها الكونغرس، الذي يعمل أعضاؤه وفقاً للتقويم الانتخابي، فيعتقدون أن دعمهم لإسرائيل هو مفتاح الفوز في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني)؛ ولهذا جعلوا من شبه المستحيل موافقة الإدارة على اعتراف مجلس الأمن بفلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وجعلوا من الصعب على الإدارة استئناف تمويل منظمة «الأونروا» أو زيادته للسلطة الفلسطينية.
من النادر أن نجد في التاريخ إجماعاً عالمياً يشبه الإجماع الحالي حول القضية الفلسطينية، بما في ذلك حرب غزة، ولهذا نجد بلينكن في حديثه أمام دول مجلس التعاون الخليجي يوم الاثنين، وكذلك في تصريحاته في الرياض وعمّان وتل أبيب يومي الثلاثاء والأربعاء، يتبنى هذا الإجماع في عدد مهم من جوانب الحرب في غزة والقضية الفلسطينية، بما في ذلك دعم الولايات لوقف فوري ومستدام لإطلاق النار بوصفه الطريقة الأسرع والأكثر موثوقية لإنهاء معاناة غزة، والحاجة إلى مزيد من المساعدات لغزة من دون إبطاء أو تعطيل. وأبلغ بلينكن وزراء خارجية دول مجلس التعاون: «لقد أصر الرئيس بايدن، بما في ذلك خلال اتصاله الهاتفي مؤخراً مع نتنياهو على أن تقوم إسرائيل بخطوات حقيقية محددة وقابلة للقياس لمعالجة الأزمة الإنسانية، وحماية المدنيين، وسلامة عمال الإغاثة». وتؤكد أميركا على أن الفلسطينيين هم من يجب أن يحكموا غزة، في حكومة موحدة تشمل الضفة الغربية وغزة، وأن إسرائيل يجب ألا تحتل أو تستولي على أي جزء من أراضي القطاع أو تسمح بالاستيطان فيها.
وبالنسبة للقضية الفلسطينية الأشمل، أكد بلينكن أن الولايات المتحدة تدعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على حدود 1967، مع إمكانية تعديل الحدود بتوافق الطرفين، وأن تكون عاصمة هذه الدولة في القدس، وتعارض محاولات المساس بالوضع القائم للمقدسات الإسلامية والمسيحية. وتعارض كذلك المستوطنات وتراها عائقاً أمام حل الدولتين، وقامت مؤخراً بفرض العقوبات على عدد من المستوطنين.
وليس سراً أن الإدارة الأميركية مرتاحة للتقرير المستقل الذي صدر مؤخراً بشأن «الأونروا»، وترى أن المنظمة تقوم بدور حيوي، وتعترف بأهمية تقديم الدعم لجهودها والحفاظ على استدامة قدرتها على تقديم المساعدات والخدمات للاجئين، وبخاصة في غزة. ومع أن قرار الكونغرس الأخير يجعل من الصعب استئناف المساعدات المباشرة للمنظمة حالياً، فإنها تحث حلفاءها على زيادة دعمهم لها.
وبالطبع ما زالت هناك نقاط اختلاف بين مواقف إدارة بايدن والإجماع الدولي. فعلى سبيل المثال، هناك إجماع دولي ضد مهاجمة رفح، أو أي مكان آخر في غزة، لتفادي تفاقم الأزمة الإنسانية الحرجة، ولكن الإدارة لا تعارض هجوماً محدوداً واضح الأهداف شريطة أن تكون هناك خطة توافق عليها واشنطن لحماية المدنيين.
مواقف الكونغرس بالطبع تختلف عن مواقف إدارة بايدن، ولا يُخفي المسؤولون الأميركيون انزعاجهم، لأسباب مؤسسية، من تدخل السلطة التشريعية في السياسة الخارجية، التي جرى العرف على أن تكون من اختصاص الرئيس. فباستثناء بعض الأصوات الجريئة في مجلسي النواب والشيوخ، أصبح الكونغرس في هذا الموسم الانتخابي مجرد صدى يردد أكثر الأصوات تطرفاً في إسرائيل. فنجده يتحرك للحيلولة دون اعتراف مجلس الأمن بفلسطين دولة كاملة العضوية، وكذلك وقف أو تقليل الدعم الأميركي لمنظمة «الأونروا» وللسلطة الفلسطينية، مع أنهما الجهازان الرئيسيان اللذان تعول عليهما الإدارة الأميركية لإدارة غزة بعد الحرب.
كان وزير الخارجية الأميركي مُحقَاً حين قال في الرياض إن المنطقة تقف أمام مفترق خطير بين طريقين: طريق الحرب الدائمة والدمار والانقسام وانعدام الأمن، أو طريق الأمن والسلام والتكامل والرخاء لدول وشعوب المنطقة. ولمّح بأن الاختيار بين هذين الطريقين مسؤولية دول المنطقة.
ولكن الحقيقة أن الولايات المتحدة تتحمل الكثير من المسؤولية لتفادي الاستمرار في الطريق الأول الذي يُشير إليه بلينكن. فلا يكفي أن تكون مواقفها مبدئية وصحيحة، بل عليها التحرك واتخاذ خطوات عملية على أرض الواقع.
ومن الإنصاف القول إن واشنطن قامت ببعض الإجراءات الفعلية مؤخراً، مثل بناء الفرضة البحرية على ساحل غزة، وزيادة مساعداتها للضفة الغربية (ولكن ليس للسلطة الفلسطينية)، وفرض العقوبات على المستوطنين. ولكنها خطوات محدودة لا تكفي. فلكي تستعيد مصداقيتها في المنطقة، على واشنطن ترجمة أقوالها إلى أفعال تتوافق مع ما أعلنته هذا الأسبوع من قناعات. وهناك أربع خطوات أولوية تستطيع إدارة بايدن القيام بها حالاً:
الأولى، وقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل إلى أن تمتثل لنصائح واشنطن، بما في ذلك وقف الهجوم على رفح الذي قال نتنياهو إنه مصمم عليه بصرف النظر عما تقوله أميركا. وهذا المطلب ليس صعباً، لأن القانون الأميركي أصبح يفرض وقف هذه الشحنات بسبب عرقلة إسرائيل وصول المساعدات الأميركية في غزة.
والثانية، استئناف تمويل «الأونروا» والسلطة الفلسطينية، وبذل جهود حقيقية لإقناع الكونغرس بضرورة ذلك.
والثالثة، دعم التحركات الهادفة إلى عقد مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية.
والرابعة، التوقف عن استخدام حق النقض في مجلس الأمن، والتدخل في إجراءات محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية الهادفة إلى محاسبة إسرائيل.
ومن دون مثل هذه التحركات فإن نفوذ واشنطن في المنطقة سيستمر في الأفول، وسيصبح الطريق الثاني الذي يتحدث عنه بلينكن - طريق السلام والتكامل والرخاء - بعيد المنال.