ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

«الصحاف» الأخير!

استمع إلى المقالة

في كل أزمة أو حرب كبيرة، نعتقد بأننا لن نرى «صحافاً» جديداً يبيع للناس حفنة من الخدع والأكاذيب، إلا أن توقعاتنا تخيب في كل مرة.

ولكن لماذا تتكرر شخصية الصحاف في كل الأزمات الكبرى؟

الصحاف هو نتيجة وليس سبباً. تنتجه حاجة الناس لسماع معلومات كاذبة تريحهم. وفي مثل هذه الظروف يظهر هذا «الصحاف» الجديد ويتلاعب بهذه العواطف الباحثة عن انتصار. يستخدم كل مهاراته في الدجل ويرفع التوقعات. يحقق من ذلك شهرةً كبيرةً وربما مالاً وفيراً، وعندما تقع الهزيمة الصادمة ينسحب، فقد انتهت مهمته. وفي الحرب المقبلة سيظهر صحاف آخر جديد... وهكذا.

هل بإمكان الناس منعه من الظهور واستغلالهم بشكل رخيص؟

ربما في حالة واحدة إذا تغيّر مفهومهم للعمل الصحافي وتمييزه بين الدعاية الرخيصة والشعر والخطابة. الصحافة الحقيقية مثل الدواء المر، تقدم لك الحقائق كما هي على أرض الواقع وتترك المُشاهد والقارئ يريانها من دون تجميل. أيُّ تغيير وتحريف وخداع هو خيانة للمهنة وخيانة للمتابع. ستكون مثل الطبيب الذي يخدع مريضه ويقول له إنه بصحة جيدة ولكن السرطان يتسلل إلى جسده. بالتأكيد سيرفع معنوياته ويريحه، ولكنه سيتسبب بقتله. إعطاؤه المعلومات الصحيحة من دون رتوش سيساعده على العلاج. سيشعر بالغضب والإنكار، ولكن سيدرك أن الحقائق المُرّة أفضل من الأكاذيب السعيدة.

ولهذا لا ينتعش مثل هؤلاء الدجالين في الصحافة الحقيقية، ولكن دائماً ما يجدون لهم مكاناً في الصحافة الرخيصة الصفراء التي تعشق مثل هذه الشخصيات وتخلقها، ولا يهمها إن كانوا يقولون معلومات غير حقيقية، ولا تراجع خلفهم وتحاسبهم، بل العكس تشجعهم على قول مزيد من الأكاذيب من دون أي إحساس بالمسؤولية المهنية والأخلاقية حتى لو كان الثمن دماء الأطفال الذين تدّعي الدفاع عنهم. وفي العادة فإن مثل هؤلاء بعيدون عن موقع الأحداث، ولا تتلطخ ملابسهم الأنيقة بقطرة دم واحدة.

الكذب في العمل الصحافي سيئ في كل الأوقات، وأسوأه وقت الحروب لأن الناس تدفع ثمن حياتها بناء على معلومات مغلوطة. ورغم أن بعض الناس (في الحياة عموماً والصحافة خصوصاً) قد لا يحبك، أو ينتقدك ويهاجمك، ومع هذا من المهم أن تقول له المعلومات الصحيحة حتى لو أراد (وهو الأمر الأسهل) أن تكذب عليه.

لماذا لا يمكن أن نرى «صحافاً» يابانياً أو أميركياً أو إنجليزياً؟ أي شخص يخرج على المحطات ويقدم للناس معلومات مضللة؟

الجواب بسيط: أولاً، لا توجد صحافة محترمة تقبل أن تستقبل هذا النوع من الشخصيات التي تعتمد على الفبركات والمعلومات غير الدقيقة. سيكونون وصمة عار عليها؛ لأنه يكذب بشكل متعمد ومكشوف. أحياناً هناك صحافيون يكتبون قصصاً مفبركة وتقارير كاذبة، ولكن دائماً يتعرضون للفضح وبعدها الطرد، وتقوم الوسيلة الإعلامية بالاعتذار لمشاهديها وقرّائها. هذا يحدث بشكل مستمر، حتى في أعرق وسائل الإعلام، تحدث أخطاء ويتم تسريب معلومات مغلوطة ويتسلل لها مخادعون معسولو اللسان، ولكنهم يُقْصَوْن بعد أن يُكشَفوا على الملأ. لماذا تقوم وسيلة الإعلام بمثل هذا التصرف؟ لأن هذا الصحافي أضر بمصداقيتها، والتخلص منه هو محاولة لاستعادة وإصلاح الضرر الذي ضرب أهم مصادر قوتها، الموثوقية.

السبب الآخر في أننا لا نجد الدجالين يظهرون في هذه الدول ووسائل إعلامها المحترمة، هو أن الناس يرون أن دور الصحافي أن يقدم لهم المعلومات الدقيقة الموثوقة من مصادرها، ولا يريدون أن يكذب عليهم أو يجمّل لهم الواقع. وإلا ما الهدف من مشاهدة محطة إخبارية أو قراءة صحيفة إلا أن تحصل على المعلومات تلك التي لا تعجبك قبل التي تعجبك؛ لأنها تقدم لك خدمة لا يقدمها غيرها.

كل الأطراف الفاعلة في الواقع من ساسة ووزراء وقادة عسكريين ورؤساء شركات وأندية يحاولون أن يعملوا بسرية، ودور الصحافة أن تنزع هذه السرية. يقولون أرباع وأنصاف الحقائق، والصحافيون يكشفون ما تبقى منها. يستخدمون العواطف للتلاعب بالجماهير، والصحافيون يحيدون هذه العواطف ويقدمون الحقيقة (بقدر الإمكان) كما هي. هذا هو دور الصحافيين، ولهذا هم غير مرضي عنهم ويغضبون أطرافاً عديدة؛ لأنهم يدسون أنوفهم بما يعنيهم (الآخرون سيقولون بما لا يعنيهم)، ولكن مهنتهم تعتمد على الشك والسؤال وليس ابتلاع أقراص التضليل بسهولة. الإشكالية الكبرى إذا كان الصحافي هو مصدر الأكاذيب لأن مهمته تفترض العكس؛ أي أن يواجه الآخرين بأقوالهم المتضاربة ومعلوماتهم المغلوطة ولا يتحول بوقاً لهم، يزيح ميوله الشخصية والفكرية ولا يدخلها بمهنته.

من الصحيح أن تجد في هذه الدول مخادعين في الدين والروحانيات والسياسة والمال؛ لأن هذه المجالات ليست قائمة على المعلومات الدقيقة، ولكن على اتباع الباحثين عن الخلاص في الدين والثروة من رجال المال والإحساس بالقومية والفخر الوطني من رجال السياسة. أي الناس يدخلون هذه القطاعات مغمضي الأعين ومخدرين لحاجات عاطفية عميقة داخلهم، ولذا تجد هناك مَن يتلاعب بهم بسهولة ويبيع لهم الأوهام. ولكن عمل الصحافة الرصينة الحقيقية مختلف، فهو قائم على نقل الحقائق، لهذا لا ينتعش فيها هؤلاء الدجالون لتعارضهم مع أساسيات وأصول المهنة.

تماماً كما أنه لا يمكن أن يُسمح لمشعوذ أن يعمل في مستشفى عريق، سيُكتشف ويُطرد لأن بقاءه سيؤدي إلى موت المراجعين. فقط ستجد هؤلاء المشعوذين يعملون بحرّيةٍ في العيادات الرخيصة. يأخذون أموال المرضى المساكين بالباطل، ويقدمون لهم علاجات تزيد من أمراضهم. وفي الصحافة الشيء ذاته. هل تريد أن تعمل في عيادة (مؤسسة صحفية) رخيصة يتكاثر فيها المشعوذون أم في مستشفى عريق يقدم للناس الحقائق كما هي؟ هل تريد أن تبحث عن أحد يكذب عليك ويقدم لك معلومات مزيفة؟ أم تبحث عمّن يجعلك تواجه الواقع من خلال معرفة حقيقة ما يحدث فيه؟ فهم القُرّاء والمشاهدين العرب لدور الصحافة الحقيقية هو الذي سيمنع خروج «صحافيّين» ومشعوذين جدد!