داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

وقُيدت ضد مجهولين... معلومين

في عام 1931، حاز الشاب المصري إسماعيل أحمد أدهم، وهو في العشرين من عمره، الدكتوراه في الفيزياء الذرية من موسكو، وقام بالتدريس في جامعاتها، ونال عضوية المجمع العلمي الروسي، ثم انتقل إلى تركيا قبل أن يستقر في مصر في منتصف الثلاثينات ويبدأ بنشر مقالات أدبية وعلمية. وفي عام 1940، فاجأت مجلة «الرسالة» المصرية الأدبية الشهيرة القراء بأول مقال علمي تنشره للعالم إسماعيل أحمد أدهم احتل 4 صفحات كلها معادلات فيزيائية معقدة ومعلومات عن القنبلة الذرية؛ السلاح الغامض في ذلك العصر.
وأثبت العالِم والأديب المصري أنه توصل في مراكز الأبحاث الروسية إلى مبادئ الفيزياء الحديثة قبل علماء ألمانيا وروسيا، وطبعاً قبل الولايات المتحدة التي دعت في ذلك التاريخ إلى اجتماع لكبار علماء الذرة في العالم للبدء في «مشروع مانهاتن» الأميركي لصنع أول قنبلة ذرية.
لم تمر على ذلك المقال «القاتل» إلا أيام قليلة حتى تم الإعلان عن وفاة العالم المصري إسماعيل أحمد أدهم غرقاً على ساحل «جليم» في الإسكندرية في عز شبابه. وقيل إنه وجدت في جيبه رسالة يعلن فيها «انتحاره» ويطلب تشريح مخه وحرق جثته. وكانت الأجهزة المخابراتية الدولية تتغطى بالانتحار الشخصي لتضليل التحقيقات الجنائية. لكنها كانت خدعة ساذجة؛ إذ إن رسالة «الانتحار» الساذجة لم يبللها ماء البحر وهي في جيبه، كما أن من يريد تشريح دماغه وحرق جثته لا يلقي بنفسه في البحر، حيث قد تختفي الجثة في أعماقه أو تأكلها الأسماك! وازداد التحقيق ارتباكاً حين أعلن شقيق العالم، الدكتور إبراهيم أدهم أن جميع أوراق وكتب وأبحاث العالم ومنها ثلاثة كتب عن الفيزياء والذرة اختفت في ظروف غامضة.
وبذلك كان العالم المصري إسماعيل أحمد أدهم أول «شهيد» في طابور اغتيال العلماء العرب المعاصرين منذ الأربعينات من القرن الماضي وحتى اليوم.
أما أول «شهيدة» من علماء الذرة فهي مصرية اسمها الدكتورة سميرة موسى التي استجابت لدعوة للسفر إلى أميركا في عام 1951 لإجراء بحوث علمية ورفضت البقاء هناك بقولها: «ينتظرني وطن أحبه يسمى مصر». وقبل عودتها إلى مصر بأيام وردتها دعوة لزيارة مفاعل نووي في إحدى ضواحي ولاية كاليفورنيا وفي الطريق الجبلي ظهرت فجأة سيارة نقل كبيرة الحجم لتصدم السيارة التي تقلّ العالمة وتلقي بها في وادٍ عميق، بينما قفز سائق السيارة التي كانت تقلّها واختفى إلى الأبد. وأوضحت التحريات أن السائق كان يحمل اسماً مزيفاً، وأن إدارة المفاعل النووي الأميركي لم تبعث أحداً لاصطحابها، وأن ما جرى كان عملية اغتيال مخابراتية لعالمة نووية مصرية، مثلما حدث مع الدكتور إسماعيل أحمد أدهم، وقُيدت القضية ضد «مجهول» في عام 1952.
وفلسفة إسرائيل في الاغتيالات أنها تعدها سياسة استباقية تُحبط عمليات مسلحة كانت على وشك قتل إسرائيليين وفق الخبير الإسرائيلي إيلي أشكنازي. ويقول رئيس منظمة الشاباك السابق يورام كوهين إن الاغتيالات سلاح فعال في أحيان كثيرة على المستويات القيادية للتنظيمات الفلسطينية. لكنه يرى أن ما بحوزة الفلسطينيين في غزة من قدرات صاروخية كبيرة «يجعلنا مردوعين عن تنفيذ اغتيالات فورية بحق قادتهم».
ومن نوابغ العلماء العرب في بداية التسعينات من القرن الماضي اللبناني حسن كامل الصباح، وسجل اختراعاته واكتشافاته في 13 دولة منها الولايات المتحدة وبلجيكا وكندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأستراليا والهند واليابان وإسبانيا وبعض دول جنوب أفريقيا. تم اغتيال العالم اللبناني في الولايات المتحدة واختفت ملفات الجريمة إلى هذا اليوم. ولحقه عالم لبناني آخر هو الدكتور رمّال حسن رمّال في عام 1991 بفرنسا تحت ظروف مريبة بعد إنجازاته واكتشافاته في مجال الطاقة البديلة، وفي مقدمتها الطاقة النووية. ووصفت مجلة «لوبوان» الفرنسية العالم رمال بأنه مفخرة لفرنسا ولبنان، وشخصيته تحمل ملامح القرن الحادي والعشرين في مجال علوم الطاقة. قبل ذلك في عام 1973 نجحت العالمة اللبنانية عبير أحمد عياش في تطوير علاج لوباء الالتهاب الرئوي اللانمطي «سارس». وتلقت عائلتها بلاغاً من وزارة الخارجية اللبنانية بأن ابنتها الدكتورة عبير التي كانت تعمل في أحد مستشفيات باريس الكبرى تم العثور على جثتها في شقتها، وتميل التحقيقات كما قالت عائلتها إلى أنه تم اغتيالها من قبل الموساد الإسرائيلي أو أجهزة مخابراتية أجنبية.
هناك تحفظات إسرائيلية في بعض المستويات المخابراتية، فالخبير الإسرائيلي زونين برغمان ينتقد الاعتماد المستمر على الاغتيالات؛ إذ يرى أنها تحقق أهدافاً بشكل تكتيكي، إلا أن ذلك أدى في النهاية إلى فشل استراتيجي، مؤكداً أن تحقيق الأهداف الاستراتيجية يتم بالحنكة السياسية والخطاب المناسب، وليس بالعمليات الخاصة. ويرى الكاتب الإسرائيلي داني يامنيت أن فاعلية الاغتيالات ما زالت محدودة على صعيد إضعاف المنظمات الفلسطينية؛ فالاغتيالات تصلح مع المنظمات الصغيرة لكن اغتيال القادة السياسيين يبدو أكثر خطورة وآثاره ضارة لأنه يُعَدّ كسراً للقواعد العامة.
أما أبرز عالم ذرة في العالم، وهو الدكتور يحيى المشدّ فقد تلقى عرضاً عراقياً للعمل في المشروع النووي «مفاعل تموز» الذي وفر له العراق كل الإمكانات والأجهزة العلمية الراقية والإنفاق المالي السخي. لكن تم اغتياله بباريس في عام 1980، وفي العام التالي قصفت إسرائيل المفاعل العراقي جنوب بغداد، وما زال ركاماً لأن العراق خرج من حرب إلى أخرى.
قليلون يتذكرون الممثل الكوميدي المصري الراحل السيد بدير ولهجته الصعيدية الجميلة. وأقل منهم من يعرف أن إسرائيل اغتالت في عام 1989 نجله سعيد السيد بدير، وهو من أبرز علماء الاتصالات الفضائية. وكان اغتياله في الإسكندرية غامضاً حتى على أجهزة المخابرات والأمن المصرية؛ إذ تم عن طريق أنبوبة غاز في غرفة النوم ثم سقوطه من الطابق الرابع حيث شقة شقيقه، على رصيف الطريق.
ولاحظ المتخصصون أن الاغتيالات لم تكن تستهدف علماء الذرة والتسليح والدراسات العلمية فقط، بل شملت الطب أيضاً. فالدكتورة سامية عبد الرحيم ميمني كانت طبيبة سعودية درست في جامعة الملك فيصل معايير الإصابات الدماغية وعمليات جراحات المخ والأعصاب، ولها نظريات علمية ناجحة. وسافرت إلى الولايات المتحدة لإكمال دراستها وتجاربها الرائدة على الشلل والخلايا العصبية. وتلقت عروضاً للإقامة في الولايات المتحدة والعمل هناك، إلا أنها فضلت العودة إلى بلدها وشعبها. وفجأة في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1997، وقبل عودتها عرضت محطة «CNN» صوراً لجثة الدكتورة سامية مخنوقة في شقتها وتمت سرقة مسكنها وبحوثها واختراعاتها وجميع أموالها ومصوغاتها.
ومن ألغاز الاغتيالات الإسرائيلية مصرع الدكتورة المصرية سلوى حبيب، وما زالت الجريمة غامضة. وكانت الراحلة أستاذة في معهد الدراسات الأفريقية، وكشفت مخططات صهيونية للتغلغل في أفريقيا، وقد تم العثور على جثتها مذبوحة في شقتها. وفي أرشيفها العلمي أكثر من 30 دراسة عن هذا التغلغل السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
خلال 74 عاماً نفذ الإسرائيليون أكثر من 2700 عملية اغتيال داخل إسرائيل وخارجها. ويقول أحد خبراء الأمم المتحدة إن إسرائيل تتفوق في عدد الاغتيالات على أي دولة أخرى منفردة مثل إيران، متجاهلة الاتفاقيات والمعاهدات والقوانين والمواثيق الدولية. وفي السنوات الأخيرة انضمت إلى «نادي الاغتيالات الدولي» الولايات المتحدة في مطاردة من تعدهم من أعدائها واغتيالهم سواء في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو ليبيا. وهذه الدول الأربع تبارت أيضاً في اغتيالات السياسيين من جنسياتها.
لكن اغتيال آينشتاين العرب الدكتور مصطفى مشرفة في عام 1950 تم عن طريق السم، وهو عالم رياضيات وفيزياء مصري متميز في بحوثه عن الإشعاع والسرعة، ما يؤدي إلى تحويل المواد الذرية إلى إشعاعات.
للمعلومات أن جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) يوظف أكثر من 7 آلاف شخص بشكل دائم. وميزانيته لعام 2018 بلغت 2.3 مليار دولار.