نديم قطيش
إعلامي لبناني
TT

محور موسكو ـ الرياض ـ أبوظبي؟! مهلاً

أوكرانيون أكثر من أوكرانيا، ونفطيون أكثر من أسواق النفط. هكذا يبدو المسؤولون الديمقراطيون في إدارة الرئيس جو بايدن، وفي لجان مجلسي الشيوخ والنواب.
لم يتردد البيت الأبيض في وضع قرار «أوبك بلس»؛ خفض الإنتاج النفطي بواقع مليوني برميل يومياً، بموافقة جميع ممثلي الدول الأعضاء الـ24، في سياق إعلان السعودية الانحياز إلى روسيا ضد أميركا في الأزمة الأوكرانية.
فاقت ردة الفعل الأميركية على القرار ردة فعل أسواق النفط نفسها، حتى يُخيّل للمرء أن سعر برميل النفط حقق قفزات جنونية، تبرر حدة الموقف الأميركي. بيد أن اللافت في هذا السياق ما سمعته مباشرة من مسؤولة أميركية ممسكة بعدد من ملفات الشرق الأوسط في إدارة الرئيس بايدن، تقر بأن تقديرات واشنطن لنتائج قرار الخفض، اختلفت، قبل القرار، عن تقديرات السعودية وبقية الأعضاء الرئيسيين في مجموعة «أوبك بلس»، رافضةً أن تسمي هذا الاختلاف في التقديرات خطأً من جانب الإدارة. كما أنها تهربت من تبرير الاستمرار في الحملة على المملكة على خلفية قرار «أوبك بلس»، بعد أن اتضح أن القرار لم يؤدِ إلى النتائج الكارثية التي تبرر تصنيفه عملاً معادياً ومتعمداً ضد الإدارة الحالية.
ولعل التفسير الوحيد لاستمرار الحملة الأميركية على الرغم من معطيات سوق النفط الهادئة نسبياً، هو أن الخارجية السعودية كشفت في بيان رسمي، أن إدارة بايدن طلبت تأجيل قرار الخفض شهراً واحداً، إلى ما بعد الانتخابات النصفية مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، من دون أن يلقى طلبها استجابة، مما دفع الإدارة للمبالغة بالتمسك بروايتها الأولى، القائلة إن قرار «أوبك بلس» غير مسؤول ومؤذٍ بشكل إستراتيجي لصحة الاقتصاد العالمي، حتى حين ثبت بالوقائع أن هذا التقدير غير سليم ومخالف لمعطيات الواقع. المبالغة في الحملة الأميركية سببها أن الأداء الدبلوماسي السعودي فضح مطالب تسييس النفط من قِبل البيت الأبيض، وهو مطلب تدينه القوانين الأميركية نفسها، وتعرض أصحابه للمساءلة القضائية، وتطلق ديناميات قد تصل إلى حدود المطالبة بعزل الرئيس الأميركي لو ثبت أنه يتواطأ لأسباب سياسية داخلية، مع قوى خارجية («أوبك بلس» في حالتنا) للتأثير على مسارات ومناخات الانتخابات الأميركية. أما اتهام السعودية والإمارات، بسبب قرار «أوبك بلس»، أنهما اختارتا صف روسيا، بدل أميركا، في الأزمة الأوكرانية، ففيه ما يدعو للاستغراب، أن تهيمن هذه المستويات من الخفة على تصريحات وردود فعل أعظم حكومات العالم.
فلو صحّ أن الرياض اختارت التحالف مع روسيا في الأزمة الأوكرانية، فلماذا استقبل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتصال ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان؟ ولماذا رحّب زيلينسكي بمساعدة سعودية تبلغ قيمتها 400 مليون دولار، من دون أن يشترط «تصحيح الانحياز السعودي لروسيا»، بحسب الاتهامات الأميركية؟ ولماذا لم تصدر عن أوكرانيا مواقف متشنجة من زيارة رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد إلى روسيا ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين، علماً أن أبوظبي، كما الرياض، تحتفظ بقنوات اتصال مباشر مع زيلينسكي؟ ولماذا زار المستشار الألماني أولاف شولتس عدداً من العواصم الخليجية، بينها الرياض وأبوظبي، للبحث في معالجة ذيول الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على ملف الطاقة في ألمانيا، إن كان لديه ما يكفي من معطيات أن هاتين العاصمتين بالتحديد تدعمان الحرب الروسية وخيارات الرئيس بوتين فيها؟
الأغرب من الحملة الأميركية، هو استسهال «مقترحات الإجراءات العقابية» التي تنضح بها مخيّلات بعض أعضاء «الكونغرس» الأميركي، والتي تتمحور حول الملف الأمني في العلاقات السعودية - الأميركية تحديداً، كمشتريات السلاح، والتعاون الاستخباراتي، والتنسيق بشأن مواجهة جهود اللاعبين المفسدين كإيران والميليشيات المرتبطة بها، أو أنشطة تنظيم «القاعدة» ومتفرعاته. يفصح هذا النوع من ردود الفعل عن قصور فاضح في فهم توازنات الشرق الأوسط، لا من زاوية مصلحة الرياض، بل من زاوية المصالح الإستراتيجية الأميركية المباشرة، التي من بين دعائمها منذ 80 سنة، هذا التحالف الأقدم في الشرق الأوسط، والأكثر ثباتاً وإنتاجاً، من أي هندسات إستراتيجية أخرى.
إن التلاعب بركائز التعاون العسكري والأمني بين الرياض وواشنطن، هو تلاعب بمصالح أميركا في المنطقة، وباستقرار النظام العالمي برمته. سنكون إذذاك، لا قدر الله، أمام نتائج تفوق بأضعاف الأضعاف نتائج الأزمة الأوكرانية على العالم.
إن التخبط الأميركي في إدارة العلاقة مع حلفاء بهذه الأهمية للمصالح المشتركة بين الطرفين، يثير السخرية بقدر ما يثير الرعب من ضحالة الثقافة السياسية، وتخلف الفهم الإستراتيجي، ورثاثة سلوكيات التفوق الأخلاقي المقيتة. ففي تبريره لزيارته إلى السعودية، قال الرئيس بايدن إنه لم يأتِ إليها طالباً أي تعديل في السياسات المعتمدة في ملف النفط، بل جاءها، ليمنع روسيا من أن تملأ الفراغ في الشرق الأوسط، أو أن تؤدي الانطباعات عن انسحاب أميركي من المنطقة إلى ولادة تحالف بين موسكو وعواصم خليجية رئيسية، ثم لا يلبث البيت الأبيض أن يصرح بانفعال بأن قرار «أوبك بلس» هو اصطفاف سعودي في معسكر موسكو! هل يقر بايدن بفشل زيارته إلى الرياض، أو أن استسهال التصريحات الانفعالية يوقعه ويوقع صورة أميركا وهيبتها في زلات من هذا النوع؟
حقيقة الأمر أن الموقف المتوازن السعودي والإماراتي، في الأزمة الأوكرانية، ينطلق من حسابات إستراتيجية دقيقة، ليس أقلها محاولة منع موسكو من الانزلاق أكثر نحو تحالف أمر واقع مع إيران، وتبديد شعور بوتين بالعزلة، وفتح أبواب الحل السياسي، بعيداً عن الخيارات التي قد يلجأ إليها محارب يائس، لا شيء يمنعه من هدم الهيكل على رؤوس الجميع.