إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

سبابات على المائدة

كان ذلك منذ دهر، قبل امتلاكي هذا الإبليس الصغير الذي كان يُسمى النقال أو الجوال. دعيت إلى مطعم في عمان وكان إلى المائدة المجاورة أسرة من معارف صاحب الدعوة. تبودلت التحيات والسلامات وجلس كل في مكانه. ولفت انتباهي أن الداعي وضع هاتفه طوع بنانه، يأكل وعين في الطبق وعين على الشاشة. ثم وصلته رسالة نصية من صديقه في المائدة المجاورة. ضحك وقرأها علينا: «ما شاء الله نازل في المقلوبة وكأنك تطلبها بثأر». وسرعان ما رد صاحبنا على صديقه وكتب له: «وأنت ما شاء الله ما قصرت مع اللبن الرائب... كأنك عطشان بالولادة». بقيت مثل الطرشاء في الزفة. مائدتان يفصل بينهما شبر. لماذا لا يتبادلان الكلام بالصوت الحي؟
اليوم صارت الهواتف على كل الموائد وفي كل الجيوب. وسمعت بمطاعم تطلب من الزبون ترك الهاتف عند الباب. إنه يشغل الانتباه عن الجلساء والأصحاب. يغوص كل منهم في شاشته، ينقر بسبابته باحتراف عالٍ وكأنه في مسابقة للرقن على الآلة الكاتبة. أصدقاء وأقارب وأحبة يلتقون لكنهم ينصرفون عن بعضهم البعض. يزدردون الطعام بشكل آلي. لا يشعرون بالمذاق. تتنافس أسنانهم في المضغ مع سباباتهم في اللمس الخاطف.
وضع بات يقلق كبار الطهاة في فرنسا. يسهر هؤلاء من أجل ابتكار وصفات ومذاقات جديدة. يجتهدون لكي يقدموا للزبون طبقاً مرسوماً مثل لوحة تشكيلية. العين تأكل قبل الفم لكن السبابة تفسد دفء الاجتماع. تبعثر اجتماع الأبناء والأحفاد حول صينية الوالدة. بينهم من يمسك الهاتف بين راحتيه وينقر بالإبهامين معاً. يعترف بأن تبادل الرسائل النصية أثناء الاجتماعات العائلية عادة غير محمودة، تكاد تقترب من قلة الأدب. لكن لا أحد مستعداً للتمتع باللحظة الحميمة الراهنة والفكاك من جاذبية الشاشة.
جاء في إحصائية نشرها مركز متخصص في مراقبة العادات الغذائية أن فرنسياً من كل ثلاثة يستخدم هاتفه على المائدة. الإبليس الصغير حاضر في كل الوجبات، لا سيما لدى الشريحة العمرية بين 18 و34 عاماً. يستحيل الجلوس للطعام بدونه. يحدث هذا في فرنسا، الأمة التي تتباهى على جيرانها الأوروبيين بأنها ما زالت ملتزمة بتقليد الوجبات اليومية. ثلاث وجبات في مواعيد محددة. كان ذلك قبل أن تستيقظ السبابات والإبهامات وتروح تصول وتجول.
والسبابة، في معجم اللغة، هي الإصبع بين الإبهام والوسطى. سُميت كذلك لأنهم كانوا يشيرون بها في السب والمخاصمة. وطبعاً فإن الهاتف الذكي لا يحتاج منك لكل سبابتك بل للأنملة، وجمعها أنملات وأنامل وهي رأس الإصبع. لم يعد هاتفك يسرق النوم من عينيك في الليالي، فحسب؛ لقد حل ضيفاً في الطبق، يقضم من وقت الأكل ومن خبز الآكلين. تقول دراسة حديثة إن للهاتف تأثيراً ضاراً على الشهية وعلى الألفة بين البشر. يومض فينفر صاحبه عن المائدة، كأنما لدغته عقرب، متحججاً بأنها مكالمة ضرورية أو اتصال من العمل. يؤكدون لك أن من يتبادل المكالمات خلال الطعام يسرف في الأكل بدون انتباه. يبتلع أي شيء بدون تلذذ.
وصف الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل سير (1930 - 2019) هذا الجيل بأنه «جيل السبابات». نشأ شباب الرقمنة وهم يديرون كل معاملاتهم بالهاتف. يسجلون في الجامعات والنوادي، يثرثرون مع الأحبة، يواعدون الطبيب، يراجعون الحساب المصرفي، يحجزون رحلات السفر، يطلبون ثيابهم وأحذيتهم الرياضية... كله في الشاشات. ومنها يرسلون قبلات وقلوباً حمراء لأمهاتهم من بعيد. ما عادت هناك حياة خارج «السمارتفون»، إدمان العصر وجاسوس الزمان.