حنا صالح
كاتب لبناني
TT

ساعة الحقيقة لمواجهة تحديات الشغور والفراغ والارتهان!

18 يوماً هي المدة المتبقية لميشال عون في القصر الجمهوري، وسيغادره قبل منتصف ليل 31 الحالي. في البيوت، كما على مواقع التواصل، يتابع الناس العد التنازلي، والكل يستعجل انتهاء عهد القتامة الذي ألحق الذُل باللبنانيين وزرع البؤس في كل مكان.
لكن مهلاً... التزم العهد دوماً تغطية اختطاف الدولة وارتهان البلد لنظام ملالي طهران ومشروعاته المدمرة. وتحول إلى عهد الشطارة في الاستئثار بالمناصب خدمة لمصالح فريقه، وإلا اعتمد الشطارة في التعطيل لانتزاع مكاسب فئوية، والتسبب في تعجيل فتح أوتوسترادات لاكتمال قوس الأزمات والانهيارات الخانقة، التي تصحر لبنان بتهجير الكفاءات والشباب، ما يتيح وضعه تحت القبضة الإيرانية من خلال «حزب الله».
قبل 6 سنوات، كان الترويج لشعارات المحاسبة ومكافحة الفساد والإصلاح، وصنع في لبنان، كما شعارات السيادة والاستقلالية ورفض التطبيع! والتعهد بأن الرئيس عون سيسلم البلد لخليفته أفضل مما تسلمه!
مخيف المشهد الذي بلغه لبنان اليوم بعد ترسانة الوعود والعهود. النظام السياسي يمر بواحدة من أخطر أزماته، بحيث بات مصير الكيان على المحك، وكذلك مصير اللبنانيين، وقد التحق أجزاء منهم بشعوب «قوارب الموت» هرباً من الجحيم الذي أطبقت به منظومة النيترات على الناس. والمشهد العام سريالي أمام الاستحقاقات المصيرية، تنازلوا عن السيادة والثروة ومنحوا إسرائيل كامل مطالبها الأمنية، ونالوا «حلولاً لغوية» والفراغ الحكومي مستمر، وجلسة البرلمان اليوم لانتخاب رئيس جديد تعزز تقدم الشغور الرئاسي!
نواب الثورة الـ13 أمام تحدٍ كبير. يمكن أن يكونوا أشد فاعلية في الدفع نحو بلورة قدرات اللبنانيين على كسر الحلقة المفرغة للانتقال إلى لبنان آخر ما زال ممكناً. لكن التنوع في الآراء، وهو غني بالنهاية، يعوق هذه الفاعلية، فتبرز شتى الاجتهادات داخل التكتل، وفيها أحياناً التناقض والتصادم. الأمر مفهوم وطبيعي، فنواب الثورة يعكسون كل المناخ التشريني، وحتى من نال من بينهم أصواتاً تفضيلية مرتفعة، مثل إبراهيم منيمنة ومارك ضو وإلياس جرادة، فإن الاقتراع العقابي كان للتغيير، وليس لاسمٍ بعينه، ولم يتوقف المقترع عند توجه آيديولوجي، ولم يسأل ما العامل المفصلي في رسم السياق الأكثر فاعلية لنواب الثورة.
والحقيقة أن 330 ألفاً اقترعوا للوائح التشرينية، ومعهم أعداد اكتشفت متأخرةً غلو ممارسات المتسلطين، يريدون الكثير؛ كل شيء نقيض السائد، وطن يتسع لأحلامهم وآمالهم، بديلاً عن المقبرة المفتوحة، أو رصيف الهجرة للقادرين. يراهنون على تغيير واسع شامل، ولا فترة سماح، وهذا ينبغي أن يكون مفهوماً.
ولأن التطورات التي تلت انتخابات 15 مايو (أيار) كانت صادمة، عندما رفض التحالف المافياوي الأخذ بمغزى الاقتراع، فأعاد تكليف الرمز المصرفي ميقاتي تشكيل الحكومة الجديدة، فاسحاً المجال أمام عودة حكومات ما قبل «17 تشرين»! فيما كان المطلوب حكومة إنجاز الإصلاحات التي تستجيب لأجندة صندوق النقد، وقد بات الممر الإجباري لمسار مختلف. وحكومة تحقيق مهام إنقاذية لحماية استمرارية الناس، والأساس الرغيف والرعاية والصحية والتعليم... ومثل هذا المنحى يستحيل السير به إلا انطلاقاً من محاسبة الكارتل المصرفي، وإرغامه على دفع ثمن جرائمه المالية! فلم يقع الاختيار إلا على ركن مصرفي لهذه الغاية!
كل ما جرى بعد الانتخابات كان أفدح مما تمّ قبلها، فإلى مضي حاكم المصرف المركزي بهدر المتبقي من الودائع عبر تعاميم كرّست تعددية سعر الصرف خدمة لمخطط تآكل الودائع وتذويبها، استمر تعطيل إقرار قانون «كابيتال كونترول»، وتم تجويف قانون رفع السرية المصرفية، وتأكد لعموم الناس أن هدف المتسلطين هو العفو عن الجرائم المالية بمنع ملاحقة المرتكبين، وهم معروفون بالاسم!
وتوج البرلمان المسار الفضائحي بإسقاط مشروع قانون تقدم به نواب الثورة، للتمسك بالخط 29 في الترسيم جنوباً، حفاظاً على السيادة والثروة، استناداً إلى خط الحدود المرسمة منذ العام 1923 بين الانتداب الفرنسي والانتداب البريطاني، والموثقة في اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل عام 1949، وليس الخط الأزرق لوقف النار عام 2000 الذي ينطلق منه الخط 23 الذي لا سند قانونياً له، واستغلته تل أبيب لفرض اعتماد خط «الطفافات» البحرية المتحركة، لأن فيه ما يخدم الأمن والأمان لإسرائيل على حساب السيادة اللبنانية!
خلاصة القول... هل يمكن لنواب الثورة التوافق مع آخرين على خطوات إصلاحية، من مشروعات القوانين إلى الاستحقاقات الكبيرة؟ وهل هناك ما يمكن التستر عليه، لجهة فداحة المصالح المشتركة المتشابكة منذ عقود بين أطراف المنظومة السياسية، التي حكمت وتسلطت وأثرت، فيما كان البلد يتشظى، والانهيارات تحاصر كل اللبنانيين ومعها صنوف الإذلال وانتهاك الكرامات؟ يقول الوزير السابق عادل أفيوني (وزير الدولة لشؤون تكنولوجيا المعلومات بين يناير - كانون الثاني 2019 و30 أكتوبر - تشرين الأول 2019): «هناك نظرية عند البعض هي أنه يمكن تغيير النظام وإصلاحه من الداخل، وأنه ممكن العمل مع بعض الطبقة الحاكمة وبطريقة تدريجية لإنقاذ البلد. هذه النظرية أثبتت فشلها ألف مرة. عشت التجربة واختبرت كم من السذاجة أن نفكر أن الطبقة الحاكمة مستعدة للتعاون على أي إصلاح»! (...) «الإصلاح تهديد لوجودها ولا تغيير ممكن إلا من خارجها».
اليوم فيما تتلاحق الاستحقاقات الخارجية، الدولية والإقليمية، فإن لبنان الذي بدأت تضربه الكوليرا، ليس بوضع يُمكِّنه من الإفادة من أي تطور إيجابي. ميزان القوى الداخلي مختل بقوة لمصلحة «حزب الله» والخارج الذي يمثل، والتحدي هو؛ كيف يمكن تحويل الاستحقاق الرئاسي إلى محطة في مسار بناء وضع مختلف، يكمل «ثورة تشرين» ومحطة الانتخابات؟ وكيف يكون خروج نواب الثورة من أحابيل التقليد وألاعيبهم، والزعم أن الاستحقاق الرئاسي هو «آخر المطاف» للبنان، وكأن الشغور الرئاسي الذي تعمق مع عون لم يكن مقيماً قبله؟! آخر المطاف يصنعه صنّاع الثورة التي وحّدت الموجوعين وفتحت أبواب الأمل، وكانوا على الموعد في الانتخابات، وهم بالتأكيد على الموعد للسير في المشروع السياسي الذي تحدثت به مبادرة نواب الثورة؛ «الكتلة التاريخية» العابرة للمناطق والطوائف، التي من شأنها بلورة البديل السياسي ولجم توجهات البعض لـ«الفدرلة» و«الكنتنة» وإحياء اصطفافات طائفية يدفع اليوم ثمنها كل البلد.
أخطر ثالث أزمة منذ 150 سنة، كما يقول البنك الدولي، هي ما يمر به لبنان، لا تواجه بمواقف رمادية، ولا تذاكٍ، «وما بدنا نفوت بلعبة الأسماء»! بل خوض الاستحقاق يكون بالشخص الذي يعكس المناخ التشريني وتنطبق عليه المعايير، والذي لم يتلوث بفساد ويتقدم الصفوف دفاعاً عن السيادة الفعلية والثروة. إنه د. عصام خليفة، الاسم المؤهل لإحداث التفاف شعبي كبير حول الاستحقاق الرئاسي الذي يعني كل اللبنانيين. إذ ذاك تتحول معركة الرئاسة إلى محطة تخدم بلورة البديل السياسي الذي يمكن التعويل عليه!