فيروزه دوماس
TT

إيران فقدت أعظم أصولها... النساء

نشأتُ في جنوب إيران وجنوب كاليفورنيا، وكان من دواعي سروري أن يكون لديّ أب يحب أن يروي قصصاً عن طفولته في إيران. وكانت معظم قصصه مضحكة، لكن كانت هناك قصة تدفعه دوماً إلى حافة البكاء.
ومع ذلك، لم يبكِ أبي قطّ، وإنما كان دائماً يغيّر الموضوع مباشرةً عند نقطة الانهيار. دارت القصة حول أخته الكبرى، صديقة، أذكى الأشقاء في عائلته الكبيرة. ولأنها كانت فتاة، فقد تزوجت في سن السادسة عشرة، وهو أمر لم يكن غريباً في المجتمع الإيراني في الثلاثينات. ورغم فضولها الفكري، لم تُتح لها فرصة إنجاز مسيرتها الدراسية. وأوضح لي والدي أنه يعد هذا جريمة. واستغلت عمتي صديقة، البالغة من العمر الآن 99 عاماً وكُفّ بصرها، حياتها في تريبة أربعة أبناء ناجحين تزوجوا من نساء قويات وربوا أطفالاً ناجحين. وبقدر ما كانت تستمتع بعائلتها، تساءل البقية منّا عمّا كان يمكن أن تنجزه في حياتها لو مُنحت حرية الازدهار مثل إخوتها، الذين أصبحوا جميعاً أطباء أو مهندسين.
إلا أنه حتى عمتي صديقة، ومع كل القيود المفروضة عليها، لم تكن كفتاة مضطرة لارتداء الحجاب، غطاء الرأس الذي فرضه المرشد آية الله الخميني بعد الثورة الإسلامية عام 1979. لم يكن الحجاب دوماً جزءاً من الثقافة الإيرانية. وتُظهر صور طهران في الستينات والسبعينات من القرن الماضي نساء يرتدين فساتين مستوحاة من ملابس جاكلين كينيدي وتتميز بأكمام قصيرة وتنورات قصيرة. بيد أن الأهم من حريتهن في ارتداء الملابس كما يحلو لهن، شهد جيل عمتي صديقة صعود المرأة في مختلف أرجاء المجتمع الإيراني، ومنها مجالات القانون والتعليم والطب، على سبيل المثال لا الحصر.
في الوقت نفسه، كان هناك الكثير من الإيرانيات، مثل الكثير من النساء اليوم، اللواتي ارتدين الحجاب، أو حتى الشادور، الذي يغطي الجسم بالكامل، لكن ليس الوجه. كان هذا اختيارهن.
إلا أنه بمجرد أن أصبح الحجاب مفروضاً من الحكومة، لم يعد ينبع من المعتقد الديني وحده، وإنما أصبح رمزاً لحق أساسي من حقوق الإنسان تم انتزاعه. جدير بالذكر أنه في إيران، تشمل العقوبة المفروضة على النساء اللاتي يتحدين قوانين الحجاب الاعتقال والجلد أو السجن.
وتتعرض النساء الإيرانيات اليوم لخطر الاعتقال وأسوأ من ذلك لسبب بسيط لا يمكن تصوره: حرية الخروج من المنزل من دون غطاء للرأس.
نعلم جميعاً أن مهسا أميني، الإيرانية البالغة من العمر 22 عاماً التي ماتت في أثناء احتجازها من شرطة الأخلاق الإيرانية بسبب ارتدائها الحجاب بطريقة «غير لائقة»، لم تمت بنوبة قلبية. ومنذ جنازة أميني في 17 سبتمبر (أيلول)، اشتعلت المظاهرات التي تقودها النساء بشكل أساسي، في مدن بمختلف أرجاء إيران. ولا تقتصر شكاوى النساء على القوانين التي تملي عليهن طريقة لباسهن. ويطالب المتظاهرون بالتحرر من كل القيود الخانقة التي تفرضها القيادة الدينية في بلادهم. وتبدو هذه المظاهرات مختلفة عن الانتفاضات السابقة، التي سحقها النظام جميعاً بعنف. وقالت لي عمتي صديقة، التي رغم فقدانها بصرها لا تزال بصيرتها قوية، أمس: «عندما كنت شابة، لم أكن أعرف أن الحياة كانت مختلفة في أي مكان آخر. يعرف هذا الجيل أنهم يستحقون المزيد. يريدون ما لم يكن لديّ. أريد ذلك لهم أيضاً».
وأنا متأكدة من أنها لو استطاعت، لكانت عمتي صديقة تحتجّ معهم الآن.
عندما تتعرض المرأة للاضطهاد، لا يفوز أحد. اليوم، نجد أن إيران تضم الكثير من النساء المتعلمات اللواتي صعدن إلى قمم المجالات التي يعملن بها، لكن المفارقة أن الحكومة تتحكم في أجسادهن. وبغضّ النظر عن تعليمها أو مساهمتها في المجتمع، فإن كل امرأة في إيران، خارج منزلها، تحت رحمة شرطة الأخلاق. وهذا وضع مهين يسحق النفس وتتعذر استدامته.
تريد هؤلاء النساء الشجاعات اللائي خرجن بعزم في مسيرات في الشوارع فرصة للعيش من دون عوائق واستعادة الحقوق التي صادرتها الحكومة التي تعاملهن كمواطنات من الدرجة الثانية. أما مستوى عزيمة وإصرار وتوق هؤلاء النساء، فيمكن أن يؤدي إلى أشياء عظيمة. ليس لديّ أدنى شك في أن النساء الإيرانيات، إذا أُتيحت لهن الفرصة ليصبحن كما ينبغي أن يكنّ، يمكن أن يقدمن مساهمات أكبر في المجتمع من شأنها أن تعود بالفائدة على جميع الإيرانيين. بدلاً من ذلك، تطالب الإيرانيات فقط بعدم التعرض للقتل بسبب إظهار شعرهن.
والتساؤل هنا: كيف وصلت إيران إلى هنا؟ أبكي على عمتي صديقة، التي عاينت نهوض المرأة في المجتمع الإيراني، وتشهد اليوم انحسارها. من دون أي صورة من التنازلات من جانب الحكومة، ستتجه إيران نحو مزيد من الاضطرابات. لا يمكن للمرأة أن تعيش في ظل هذه القوانين الجائرة إلى الأبد. ويجب أن تدرك المؤسسة الدينية الإيرانية أن رفع الزي الإسلامي هو خطوة أولى ضرورية نحو مزيد من المساواة. إن توسيع نطاق حقوق الإنسان الأساسية هذه لتشمل المرأة ليس قضية معقدة. المشكلة الحقيقية تكمن في الاعتقاد الخاطئ بأن أجساد النساء بحاجة إلى المراقبة والتحكم.
اعتاد والدي، المهندس الذي ساعد في بناء مصافي النفط الإيرانية، أن يقول: «لو لم يكن لدى إيران النفط، لكانت البلاد قد ازدهرت حقاً». ولأنه ملعون بالثروات الطبيعية، فقد البلد مستقبله. أعظم أصول إيران لم تكن تحت الأرض... أعظم ما تملكه هو السير في الشوارع الآن.