جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أوروبا: كسرُ الحواجز بين الهوامش والمتن

وكأن الأزمة البيئية المتواصلة، ممثلة في التغير المناخي وانعكاساته السيئة في مختلف بقاع العالم، ثم كارثة الوباء الفيروسي وآثارها المدمّرة على المستويات والقطاعات كافة، وما أعقبها مباشرة - ممثلاً في الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الخطرة على السلم الدولي - لا تكفي، ها هي أوروبا، مرّة أخرى، تجد نفسها تدخل مرحلة تاريخية أخرى، مرّة ثانية، من منعطف اليمين المتطرف.
قد يظنّ البعضُ أن التاريخ الأوروبي حالياً يشهد عودة إلى الوراء، مشابهة لتلك الفترة التاريخية التي أدت إلى ظهور وانتشار أحزاب وحركات سياسية يمينية أوروبية، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، تمكنت من الوصول إلى السلطة، وقادت العالم إلى حقبة دامية وكارثية لا تنسى. هزيمة الحركتين النازية والفاشية، في الحرب الكونية الثانية، أدت إلى خروجهما من الساحة السياسية، ولجوؤهما إلى الانزواء في جيوب صغيرة، لا وزن لها سياسياً، وُجدت دائماً على هامش المتن السياسي، وواجهت الإهمال والتجاهل. إلا أننا مع بداية الألفية الثالثة بدأنا نشهد خروج اليمين المتطرف، في تجسيدات متنوعة، من تلك الهوامش التي سجن داخلها، وبدأ رحلة التسرب إلى الساحة السياسية الرئيسية، عبر إحداث تغييرات طفيفة على جلده القديم، ثم نجاحه غير المتوقع، عبر صناديق الانتخاب، في الجلوس على مقاعد تحت قباب برلمانات أوروبية عديدة وعتيدة مثل البرلمان الفرنسي، (حزب السيدة مارين لوبان)، والمشاركة في قيادة حكومات، كما حدث في إيطاليا بقيادة الشعبوي اليميني ماتيو سالفيني.
السويد، التي كانت تعدّ واحدة من قلاع الليبرالية، تهاوت أمام الزحف اليميني في الأيام الماضية، بنجاح حزب الديمقراطيين السويديين في الانتخابات النيابية وتمكنه من الحصول على نسبة 20 في المائة من أصوات الناخبين في سابقة غير معهودة، وهي ثاني أكبر نسبة من الأصوات، الأمر الذي يؤدي إلى دخول الحزب إلى السلطة، لأول مرّة في تاريخ السويد. الاختراق اليميني للساحة السياسية في السويد ربما كان متوقعاً، لكن ليس بالسرعة التي حدثت، ولا حجم الدعم الشعبي. وهذا بدوره يقود طبيعياً إلى السؤال حول مدى عمق جذور الليبرالية في التراب السويدي.
الموجة اليمينية الأوروبية المتطرفة، انتقلت كعدوى من بلد إلى آخر، بمساعدة عوامل عديدة، يأتي في مقدمتها الموقف المعادي لموجات الهجرة من بلدان أفريقيا والشرق الأوسط. ولم تتوقف عند السويد، بل ما زالت تتقدم بثقة؛ إذ من المتوقع اليوم الأحد الموافق 25 سبتمبر (أيلول) 2022 فوز الائتلاف اليميني المتطرف في إيطاليا بقيادة جورجيا ميلوني، زعيمة حزب «إخوة إيطاليا»، بالانتخابات النيابية. ويحدث ذلك في تزامن مثير للريبة، إن لم يكن مثيراً للقلق، مع اقتراب حلول الذكرى المئوية الأولى لوصول الحركة الفاشية الإيطالية إلى الحكم بقيادة بنيتو موسوليني!
وبالتأكيد، فإن تحقق ذلك قريباً، يعني، أيضاً، إعادة إشعال النقاش مجدداً بين أنصار ومعارضي مقولة «التاريخ يعيد نفسه». التطورات السياسية في السويد مؤخراً، بالضرورة، سوف تفتح أبواباً جديدة للنقاش، غير مطروقة من قبل، وخاصة منها المتعلق بالسؤال عما حدث، وكيف حدث، ولماذا؟ آخذين في الاعتبار أن ألمانيا كانت الدولة المرشحة للعب هذا الدور، لكنها نجت بأعجوبة من الوقوع في فخ اليمين المتطرف انتخابياً، بنجاح يسار الوسط ممثلاً في ائتلاف يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الفوز في المباراة الانتخابية الأخيرة، وقطع الطريق أمام اليمين المتطرف انتخابياً من تحقيق حلمه في أن يكون طرفاً في السلطة. وهذا بالطبع، سيقود كثيرين إلى الخوض في نقاش آخر حول مقولة القاعدة والاستثناء. النقاشات قد تكون مجدية أكاديمياً، لكنها، في حقيقة الأمر، لن تتمكن من تشتيت تركيز الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة على مواصلة السعي إلى الهدف المنشود: الاستحواذ على السلطة، وفق أصول وقواعد اللعبة الديمقراطية الغربية، وحفر مجرى مختلف لسير التاريخ في القارة العجوز وفي العالم. وليس أمامنا نحن سوى ربط أحزمة المقاعد، والاستعداد لخوض غمار رحلة تاريخية محتملة، وشديدة الخطورة.