هناك اهتمام زائد بالبرازيل بمناسبة إجراء الانتخابات الرئاسية في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) القادم، من منطلق أن نتيجة تلك الانتخابات سيكون لها أثر مهم، ليس فقط على أميركا اللاتينية، وإنما أيضاً على الدور الذي يمكن أن تقوم به البرازيل، مع دول أخرى، في قيادة الدول النامية، في ظل عدم الاستقرار الذي يمر به النظام الدولي.
هذه كلها مسائل يتم تناولها، لكن التركيز هو على الأسلوب الذي اقتبسه الرئيس بولسونارو من الرئيس الأميركي السابق ترمب لضمان إعادة انتخابه، بدءاً من التشكيك في مصداقية آلات الاقتراع الإلكترونية التي تستخدمها البرازيل بنجاح فائق منذ عقود، ومهاجمة السلطة القضائية، وتخويف الناخبين من خلال نشر الأكاذيب.
فكما فعل ترمب خلال انتخابات عام 2020 أعلن بولسونارو أن الانتخابات النزيهة الوحيدة التي يمكن أن يقبل بها هي تلك التي يفوز فيها، علماً بأن أحدث استطلاعات للرأي تشير إلى أن منافسه الأساسي، الرئيس السابق لولا، سيفوز بهامش 15 في المائة، الأمر الذي من شأنه إعادة البرازيل إلى دورها الريادي على الساحة الدولية.
فالبرازيل تتمتع بخصوصيات فريدة. فهي بوتقة الانصهار الحقيقية للأعراق والثقافات في العالم، مقارنة بدول المهجر الرئيسية مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، التي يمكن وصفها بخليط من مكونات مختلفة كالفسيفساء. كذلك، على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، كانت البرازيل باستمرار من بين أكبر اثني عشر اقتصاداً في العالم، اعتماداً على سعر الصرف السائد، بل إنها في مرحلة معينة وصلت إلى المركز الخامس. كما أنها قوة عظمى في المجال الزراعي: فهي أكبر منتج ومصدر في العالم للسكر وفول الصويا والقهوة، وثاني أكبر مصدر للحوم، وثالث أكبر منتج ومصدر للذرة. كما أنها ثاني أكبر منتج للحديد. وليس ذلك فحسب، فهي أيضاً عملاق صناعي: ثالث أكبر منتج لطائرات الركاب في العالم، وثامن أكبر منتج للسيارات، وتاسع أكبر منتج للصلب. وإلى ذلك فهي دولة ديمقراطية، وإن كانت ديمقراطيتها منقوصة بسبب سوء توزيع الدخل الذي يعتبر الأسوأ في العالم رغم الإنجازات المهمة التي حققها الرئيس السابق لولا (2003 - 2011) لتصحيح هذا الوضع الظالم.
ونجحت مجلة «الإيكونوميست» في أن تعكس التفاؤل الذي يحدث بشكل دوري بشأن مستقبل البرازيل، عندما نشرت على غلاف أحد أعدادها الصادرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 صورة لتمثال المسيح الذي يطل على مدينة ريو دي جانيرو، كالصاروخ المنطلق. ولكن، منذ ذلك الحين، جاء معظم ما كتب عن البرازيل سلبياً بالتركيز على الجريمة والفساد السياسي والاقتصادي وإزالة الغابات في الأمازون، ومؤخراً السياسات المشوشة للرئيس بولسونارو.
هكذا هي قصة البرازيل: التأرجح بين القوة الاقتصادية الخامسة في العالم، وبين تاريخ من الفرص الضائعة. وربما أفضل وصف للبرازيل هو الذي استخدمه الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول عندما وصفها بأنها بلد المستقبل، وستظل كذلك دائماً.
وهذا اللغز هو الذي يجعل البرازيل دوماً محل اهتمام عالمي. إلا أن ما لم يحظَ بالاهتمام الواجب في هذه المرحلة هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش في الانتخابات القادمة.
فالجيش البرازيلي من أكثر المؤسسات صلابة في البلاد. فهو لعب دوراً مؤثراً بشكل مباشر وغير مباشر في الحياة السياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر. فقد تولى الجيش السلطة بشكل مباشر من خلال انقلاب عسكري عام 1964 جاء في سياق تاريخي معين وهو إنقاذ البرازيل من الفوضى التي كانت ستجعل البلاد فريسة للشيوعية، وهو ما لم يكن مقبولاً من الجيش، كما أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة للمخاطرة بقيام حكم شيوعي في أهم دولة في أميركا اللاتينية في ذروة الحرب الباردة. فهناك مقولة شائعة في أميركا اللاتينية تذكر أن ما يحدث في البرازيل لا بد أن يتكرر في باقي دول القارة.
وللحكم العسكري في البرازيل إنجازات مهمة، وله في نفس الوقت إخفاقات عديدة. فرغم الخصائص الاستبدادية للنظام، فإنه لم يكن فاشياً. فهو لم يبذل خلال فترة حكمه أي جهد لحشد الجماهير لدعم الحكومة، سواء من خلال تشكيل حزب، أو بأي شكل آخر، بما في ذلك استخدام سلاح الآيديولوجيا، بل على العكس من ذلك، استمر الفكر اليساري في السيطرة على الجامعات وبين المثقفين بشكل عام. فالرئيس السابق كاردوسو، اليساري الشهير في ذلك الوقت، الذي حكم البرازيل خلال الفترة بين 1995 - 2002 فر إلى المنفى خلال تلك الفترة، ثم عاد مرة أخرى تحت الحكم العسكري، ودخل المعترك السياسي إلى أن انتخب رئيساً. وعلاوة على ذلك، لم يتم حل النقابات العمالية، وإن تعرض العديد من قياداتها إلى الاضطهاد والسجن.
وخلال فترة الحكم العسكري في البرازيل، لم يعد رجال السياسة المحترفون مسؤولين عن إدارة شؤون الدولة، كما لم يكن للبرلمان دور مهم في صنع القرار، حيث تولت القيادة العسكرية العليا والأجهزة التابعة لها والبيروقراطية إدارة الدولة. كذلك كانت المرحلة التي شهدت ذروة القمع السياسي، فتم تقييد الحريات المدنية إلى درجة كبيرة، وانتشر الاحتجاز الإداري والتعذيب. ولكن بمعايير ذلك الوقت، وخاصة بالمقارنة بدول أميركا اللاتينية الأخرى، مثل الأرجنتين وتشيلي لاحقاً، يعتبر الحكم العسكري في البرازيل الأقل قسوة وبطشاً.
أما تدخل الجيش في إدارة الشؤون الاقتصادية فكان محدوداً للغاية. فقد تولاها وزراء المالية والتخطيط المدنيون، بالمشاركة مع التكنوقراط.
وتضمنت هذه الحقبة مرحلة «المعجزة الاقتصادية البرازيلية 1964 - 1973»، حيث حققت البرازيل معدلات نمو وصلت إلى 10 في المائة سنوياً، إلى أن جاءت أزمة النفط عام 1973، وفي تلك الفترة تم إنشاء مؤسسات مهمة مثل البنك المركزي «بنكو دو برازيل» والعديد من الصناعات المهمة. ولكن أيضاً، وصل الدين الإجمالي الداخلي والخارجي إلى معدلات خطيرة وغير مسبوقة، حيث ارتفع من أقل من 40 مليار دولار في عام 1967 إلى 97 ملياراً في عام 1972، ثم إلى 375 ملياراً في عام 1980.
وأمام عدم قدرة الجيش على التعامل مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي حلت بالبلاد عام 1973، وبالتالي إدارة شؤون البلاد بشكل فعال، قام طواعية وبشكل تدريجي بتسليم السلطة عام 1985 إلى المدنيين، وتعاون معهم في ترسيخ النظام الديمقراطي، وتوارى عن السياسة ولكن بالشكل الذي حافظ فيه على مصالحه الخاصة.
وبالعودة إلى الرئيس بولسونارو الذي انتخب عام 2018، فإنه اعتمد على الجيش في إدارة شؤون الدولة بشكل غير مسبوق، وذلك نتيجة لانتخابه دون قاعدة سياسية واضحة، فكان عليه بناء ائتلاف ليعتمد عليه في الحكم ضم المسيحيين الإنجيليين واليمين المتطرف وسكان الريف والجيش. فاليوم، الحكومة تضم 10 ضباط من أصل 23 وزيراً، كما أن عدداً لا بأس به من الوظائف المدنية يشغلها عسكريون سابقون. ومع ذلك، لم تكن علاقة بولسونارو بالجيش مثالية خلال فترة حكمه.
فقد حرصت القيادة العسكرية على عدم تجاوز حدود دورها التقليدي في صيانة الدستور وحماية الأمن القومي، حيث تفادت تلبية العديد من طلبات بولسونارو التي اعتبرتها تجاوزاً لذلك. فعلى سبيل المثال، لم يستجب العسكر لطلب الرئيس باستخدام القوة لوقف إزالة الغابات في الأمازون، والتي هي في الأساس نتيجة سوء إدارة من جانبه، كما نجحوا في تحييد آثار بعض تجاوزات سياسته الخارجية، بما في ذلك في الشرق الأوسط، مثل الحيلولة دون تنفيذ وعد بولسونارو بنقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس.
والآن، وبعد أن قام بولسونارو بتعزيز دور الجيش على مدى السنوات الأربع الماضية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يقوم الجيش بمساندة الرئيس في مخططاته التي تهدف إلى ضمان إعادة انتخابه حتى لو استدعى ذلك انتهاك الدستور وأحكام المحكمة الدستورية العليا؟ أم سيقتصر دوره على حماية مصالحه الخاصة في إطار الضوابط التي حددها الدستور؟
يسعي بولسونارو إلى فرض سيناريو لضمان إعادة انتخابه، وفي حال فشله في تحقيق ذلك فإنه يقوم بالتحضير لسيناريو بديل بإعلان أنه تم تزوير الانتخابات لخلق أزمة سياسية تؤدي إلى العنف بين المؤيدين والمعارضين للرئيس، تجبر الجيش على التدخل لاستعادة الأمن والسلم الداخلي.
الجيش البرازيلي يتمتع بتقدير واحترام الشعب البرازيلي، وإن فقد قدراً لا بأس به من مصداقيته مؤخراً بسبب سوء تعامل وزير الصحة العسكري مع جائحة «كورونا» التي أدت إلى وفاة 700 ألف مواطن، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم بعد الولايات المتحدة.
في ضوء ما تقدم، فإن الجيش البرازيلي أمام أحد خيارين؛ الأول، دعم الرئيس بولسونارو في مسعاه لضمان إعادة انتخابه، حتى وإن تطلب ذلك تقويض العملية الانتخابية، والثاني الالتزام بدوره في التعاون مع القضاء المستقل والصحافة الحرة اللذين تتمتع بهما البرازيل، لحماية النظام الديمقراطي.
في الخلاصة، سوف تظهر الأسابيع القليلة القادمة ما إذا كان الجيش في البرازيل هو بالفعل حامي إرادة الشعب التي تفرزها انتخابات حرة ونزيهة، وراعي مصالح البلاد العليا التي تعلو على مصالحه الخاصة.
* سفير مصري ومسؤول أممي سابق
8:2 دقيقه
TT
الانتخابات الرئاسية في البرازيل: مصير بولسونارو رهن بقرار الجيش
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة