سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

هذه الضجة حول قبر طه حسين!

قامت ضجة إعلامية واسعة في القاهرة حول قبر طه حسين، ثم سكتت كما تسكت أي ضجة مشابهة؛ لأن موضوعاً آخر يحل في مكانها فينشغل به الناس!
وكان سبب الضجة أن الحكومة تفكر في شق طريق يعبر منطقة المقابر في قاهرة المعز، وأن مقبرة طه حسين تعترض الطريق، وكان الحل هو التفكير في إزالتها، أو بمعنى أصح نقلها إلى مكان آخر.
وما كاد الخبر يتسرب إلى الإعلام حتى انشغل كثيرون جداً به وبالتعليق عليه، وكانت غالبية التعليقات والآراء على مواقع التواصل الاجتماعي بالذات، وكانت النسبة الأكبر فيها ترفض إزالة المقبرة، أو حتى نقلها إلى أي مكان مهما كانت مزايا المكان المقترح.
ومن قوة الاعتراضات على النقل أو الإزالة، أعادت الحكومة التفكير -فيما يبدو- في الموضوع، وصدرت إشارات عن جهات حكومية مختلفة تقول إن المقبرة سوف تبقى في مكانها، وإن الطريق يمكن أن يمشي في مساره، من دون أن يدهس رفات عميد الأدب العربي في طريقه بالضرورة.
كانت الضجة التي قامت ثم هدأت مع الوقت، مناسبة ملائمة لإعادة تذكير الناس بأن رجلاً عظيماً اسمه طه حسين، قد مر ذات يوم من هنا، وأنه كان نموذجاً في الإرادة العالية، وأن إرادته هذه قد جعلته صاحب مكانة لا ينازعه أحد فيها على المستويين المصري والعربي معاً، وأن مقبرته إذا كانت ستبقى بيننا في مكانها، فلا أقل من أن نعيد تذكير أنفسنا بأفكاره، لا بمجرد مثواه الأخير الذي يرقد مطمئناً فيه.
وكان هو قد تولى وزارة التربية والتعليم في آخر حكومة قام حزب «الوفد» بتشكيلها قبل ثورة 1952، وكان ذلك في عام 1950، وكان اسم الوزارة وقتها وزارة المعارف، لا وزارة التربية والتعليم كما هي الحال الآن، وكان الوزير في حكومات ما قبل الثورة يحصل على رتبة الباشوية بمجرد أدائه اليمين الدستورية في الغالب، ولذلك صار طه حسين من بعدها طه حسين باشا!
وكانت الفكرة الأهم التي انشغل بها وقت وجوده وزيراً، هي فكرة المجانية في التعليم، وقد أطلق في ذلك الوقت شعاره الشهير: التعليم كالماء والهواء.
وكان القصد أن التعليم لا بد من أن يتاح أمام كل مواطن بالمجان، وأن يكون مثل الماء والهواء تماماً، فكلاهما لا يدفع الإنسان شيئاً في سبيل الحصول عليهما، أو هكذا نفترض ونظن.
وكان القصد من مجانية التعليم لدى صاحب الشعار، مجانية التعليم الأساسي طبعاً، لا مجانية التعليم على إطلاقه، فالتعليم الأساسي الذي يمتد من السنة الأولى الابتدائية إلى نهاية التعليم الثانوي، لا بد من أن يتاح للجميع وبدرجة عالية من الجودة، لا أن يكون تعليماً مجانياً والسلام، ولا أن يكون شعاراً نظرياً فقط، ولا أن يكون اسماً على غير مسمى.
هذا ما قصده صاحب الشعار، وهذا ما عمل على تحقيقه حين صار الأمر بيده في الوزارة، وهذا ما كان على كل الوزراء الذين جاءوا من بعده في مكانه أن يتمسكوا به، وأن يحرصوا عليه، وأن يعملوا على أن يكون وجودهم في مكان طه حسين إضافة إلى الشعار، وتعلية على ما بناه من قبل، ومزيداً من تطبيق شعاره عملياً في مراحل التعليم الأساسي الثلاث.
ولكن الحاصل يقول إن هذا لم يحدث، وإن الثورة عندما جاءت بعد آخر حكومات «الوفد» بعامين، قد جعلت المجانية في التعليم الجامعي أيضاً. وكانت نية رجال الثورة الذين قرروا ذلك صادقة لا شك، ولكننا نقرأ أن الطريق إلى جهنم مفروشة بالنيات الحسنة.
ويروي الدكتور عبد القادر حاتم في مذكراته، أنه التقى طه حسين في سنواته الأخيرة، وتحدث معه في شأن المجانية وشعارها، وأنه لمس من خلال كلامه أنه لو عاد الزمان به لكان قد جعل الشعار أكثر انضباطاً، وأن الحديث عن أن التعليم كالماء والهواء هكذا بلا ضوابط حاكمة، يمكن عند التطبيق العملي على الأرض أن يفرغ الشعار من مضمونه كثيراً!
ويقول الدكتور حاتم إنه قد مازح عميد الأدب في حديثه معه، وتساءل على سبيل السخرية: وماذا لو كان الماء ملوثاً والهواء كذلك؟! هل يصح عندها أن نظل نردد الشعار من دون أن نراجعه، أو نناقش مضمونه، أو نتكلم في حقيقة محتواه؟!
شيء قريب من هذا تكلم فيه نجيب محفوظ في مذكراته التي كتبها عنه رجاء النقاش، وكان رأي صاحب «نوبل» أن عبد الناصر كان له في موضوع مجانية التعليم إيجابيات، وإيجابيات سلبية، وأن الثانية تعني أن المجانية كانت إيجابية في البداية، ولكنها تحولت مع الوقت إلى سلبية، وأن ذلك حدث عندما تخرجت في الجامعات أعداد كثيرة من الطلاب غير مؤهلة، وغير مجهزة لأسواق العمل، لا لشيء إلا لأن مبدأ المجانية قد جرى تطبيقه بالطريقة الخطأ في مرحلة ما بعد خروج طه حسين من الوزارة.
ففي الدول التي أقامت نهضتها على أساس من التعليم، لا يوجد شيء اسمه التعليم المجاني على إطلاقه، ولكن يوجد تعليم مجاني في مراحل التعليم الأساسي وحدها، وهذا التعليم لا بديل عن أن يتاح لكل طالب من دون أن يدفع فيه شيئاً، فإذا أراد هذا الطالب نفسه الانتقال من التعليم الأساسي إلى الجامعة، ولم يكن متفوقاً في دراسته، كان عليه أن يدفع من جيبه.
أما المتفوق فالدولة تتعهده، وتأخذه إلى الجامعة على حسابها، وتتكفل بتعليمه مجاناً في جامعاتها؛ لأنه متفوق، وليس لأي سبب آخر.
وإذا أراد غير المتفوق أن يواصل التعليم في الجامعة، وهو لا يملك مالاً، فالدول قد وجدت لذلك حلاً، وهذا الحل هو أن تقرضه الحكومة ليدرس في الجامعة، فإذا تخرج وبدأ العمل أصبح عليه أن يسدد القرض على أقساط حسب نظام يتم الاتفاق بشأنه مسبقاً.
هكذا مشى العالم المتقدم في تعليمه، ولا يزال يمشي، وهكذا توصل بالتجربة إلى الطريقة الأمثل في مبدأ مجانية التعليم الذي يخرج عن سياقه، ويبتعد عن هدفه، وعن فلسفته، إذا ما اختلط فيه الأمر بين تعليم أساسي يسبق الجامعة لا نقاش في المجانية خلاله، وبين تعليم جامعي لا بد من نظام يحكم تطبيق المبدأ فيه، وإلا فالتعليم لا يصبح تعليماً، ولا المجانية تظل مجانية!
ومن تفاصيل النقاش الذي دار بين طه حسين والدكتور حاتم، تشعر أن «عميد الأدب العربي» لو كان الأمر في يده بعد ثورة 1952، لكان قد أعاد النظر فيما قررته حكومات الثورة عندما فتحت الجامعات أمام الكافة، ومن دون تفرقة بين طالب متفوق وطالب غير متفوق.
والحديث عن التفرقة على هذا الأساس عند الالتحاق بالجامعة، ليس فيه بالطبع أي موقف تمييزي ضد الطلاب غير المقتدرين مادياً، إذا ما رغبوا في دخول الجامعة، ولكن فيه تمييزاً بين تعليم أساسي مجاني يحصل عليه كل مواطن بلا أي مقابل، وبدرجة كبيرة من الجودة، وبين تعليم في الجامعات يحصل عليه المتفوق وحده بالمجان.
وكان الأمل أن يقود الجدل حول مقبرة طه حسين إلى نقاش من هذا النوع، ليس في داخل مصر وحدها، ولكن في كل عاصمة عربية؛ لأن الرجل لم يكن يتحدث عن التعليم بالنسبة للمصري وحده، ولكن كان يتحدث عن التعليم الذي يخص كل مواطن عربي، وكانت همومه في التعليم وفي الثقافة وفي الفكر، هموماً عربية واسعة، بقدر ما كانت تتصل بحياة البلد الذي نشأ وعاش فيه.
انشغلنا بالمقبرة، وموقعها، وما فيها، ولم ننشغل بمدى ما نجده بيننا من أفكار صاحبها الذي نقلت عنه زوجته سوزان في كتابها عما كان بينهما، أنه كان يتقلب في فراشه خلال ساعاته الأخيرة، ويتمتم قائلاً: ما أسخف أن يقود الأعمى مبصرين!