د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

ملك الإنجليز... ودقة مواعيده

كنا في لندن ننتظر قدوم الملك تشارلز (الحالي) راعي مؤتمر استثماري نفطي (كان أميراً حينها). وبينما نحن كذلك إذ ظهر عريف الحفل الإنجليزي، وقال بصوت جهوري، من دون ميكروفون، سمعه كل من في القاعة: «سيداتي سادتي، سوف يدخل عليكم من هذا الباب، في تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً، الأمير تشارلز». وشدد بصوته على كلمة «في تمام» Sharply، ثم أضاف: «فإذا دخل أرجو من حضراتكم الوقوف مشكورين».
التفتُّ إلى زميلي باستغراب، وهمست في أذنه: «من أين جاء العريف بهذه الثقة؟ لربما يتأخر راعي الحفل لظرف أو ازدحام مروري». وبعد ثلث ساعة، وفي اللحظة التي أشارت إليها عقارب الساعة إلى الحادية عشرة، ظهر ملك بريطانيا ليقف له كل من في القاعة اتباعاً للبروتوكول. شخصياً شعرت بأنني أقف تقديراً لاحترامه لأوقاتنا.
والمفارقة المؤلمة أنني حضرت مؤتمراً مشابهاً في دولة عربية، تأخر فيها راعي الحفل ساعة وخمسين دقيقة. ظننت أن مكروها قد أصابه، فرد عليَّ أحدهم باسماً وهو يقول: عادة يحضر بعد ساعة ونصف من الموعد المعلن!
تفرس في وجوه اليابانيين والأميركيين والإنجليز الذين يرأسون كبريات الشركات العالمية، كيف ينظرون إلينا ونحن أمة نردد القول الشهير: «الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك»!
حاولت تتبع جذور اهتمام الإنجليز بدقة المواعيد punctuality الذين نصبوا لنا أكبر وأشهر ساعة ملهمة في العالم (بيغ بن) التي صممها إدموند بيكيت دينيسون، في 31 مايو (أيار) عام 1859. ثم وجدت ضالتي في دراسة دكتوراه للباحث كينيث كوربت، في جامعة بريتش كولومبيا، عام 2020. خلاصة ما جمعه من أدبيات بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر عن «دقة المواعيد» أظهر لنا أنها فضيلة تمحورت حولها النقاشات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالشخص الصادق والجدير بالثقة، علاوة على أن غياب الالتزام بالمواعيد كان يشكل معضلة كبيرة في النقاشات المرتبطة بالتجارة، والإدارة المحلية، ورحلات القطارات، وشبكة الكهرباء. ذلك أن الإنجليز قد حفروا أشهر مترو أنفاق في تاريخ الشعوب عام 1863، وهذه الشبكات التي يسير بعضها فوق بعض، تحت طبقات الأرض، كانت تحتاج إلى أن يولي الفنيون والناس للوقت اعتباراً شديداً.
وعلى الأرجح تغلغل الوقت إلى ثقافة البريطانيين، من دقة مواعيد القطارات. فعوامل سرعة أو بطء القطارات أو خللها تكشفها دقة الالتزام بالمواعيد، وهذا يعني أن وصولها في الموعد دليل على أن كل شيء على ما يرام. فلم يكن آنذاك وسائل تواصل تنقل لنا الحوادث لحظة بلحظة. كما أن عدم احترام دقة المواعيد كان يثير شكوكاً حول جدية المدين في دفع أقساطه، وتساؤلات حول مدى دقة تلك الساعة المعلقة على الحائط، وما إذا كان القطار سيوصلنا إلى وجهتنا من عدمه.
والمفارقة أن الباحث قد وجد أن «دقة المواعيد كانت قيمة إنجليزية مرتبطة بالطبقة الوسطى؛ حيث روّج لها كُتاب من تلك الطبقة لقراء من الطبقة نفسها».
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل بدأت دقة مواعيد الإنجليز من البلاط الملكي، أم جاءت من الطبقات الاجتماعية الأخرى، فكونت ثقافة سائدة.