فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

تتمة حول الرقص والموسيقى والحرب

نشر موقع «حكمة» قبل أيام مقالة مهمة بعنوان «الرقص بوصفه تفلسفاً» كتبها دومينيك بازنار، وفيها تحدث عن أنّ الشروع في الرقص هو بمثل دعوة إلى حركة جسم عُثر عليه ودعوة إلى رحلة للفكر. أن ندخل «في» الرقص، هو أن ندخل على نحو ما «عالماً». أن ندخل هو أن نتخطّى العتبة، ولكن أن نتخطّى أيضاً خطّ الوصل، على نحو من الإقامة؛ إنّ الرقص في دلالته الأولية هو خيط، مشدود نحو التجسيد، وإن الرقص منذ العصور القديمة وفي كلّ الثقافات أحد أنماط التعبير الأكثر تقاسماً والأكثر شعبية؛ لغة مشتركة وكونية، لغة الشعر والعواطف. أن ندخل في الرقص، هو أيضاً التفلسف؛ لأنّ الرقص ليس أن نتحرّك فحسب. نحن نرسم لوحة العواطف والأحاسيس بما نشتغل عليه من الحركة.
والواقع أن الفيلسوف نيتشه، كما كتبتُ من قبل، من كبار المنظّرين للرقص بوصفه جسدانية. تقوم فلسفة نيتشه على تغليب الجسد ليكون مركزاً في تفاعل الإنسان مع وجوده، وهو يعتبر معاني الجسد يجب أن تعبّر عن القوة والصحة والسلامة. ارتبطت فلسفته بالجسد وإنصافه، وكان أن طرح مفهوم الرقص ليعبر عن «الإنسان القوي» وعن «معرفة الوجود المرحة» التي نادى بها زرادشت. ولأن زرادشت هو «الإنسان الأعلى» والمعبر عنها في فلسفة نيتشه - كما يقول هيدغر في دراسته التي تصنّف على أنها الأهم حول فلسفة نيتشه، تليها دراسة جيل دلوز عن نيتشه - ولأن زرادشت كذلك فقد نادى من الأعالي من الجبال «إن الجسد السليم، يتكلم بكل إخلاصٍ وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحاً عن معنى الأرض. ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل. إن ما يجب أن أومن به يجب أن يكون راقصاً».
الرقص لديه هو عنفوان الإنسان، والتحدي لرتابة إيقاع الوجود. الرقص تنويع على إيقاع الوجود وتجاوز له؛ ذلك أن الإنسان يجب أن يهيمن على الغابات وعلى الجبال وأن يصطاد فرائسه بالنسور، وأن يلاعب الأفعى بيده، وأن يبحث عن الخطر ليلجه. الرقص منذر بالخطر، ذلك أن الأقدام الرشيقة التي ترقص، هي الأقدام التي تجرّ الجيش، وتقرع طبول الحرب.
يمر زرادشت بالغابة، ومعه صحبه، وهو يفتش عن ينبوعٍ بين الأشجار والأدغال، وكان هناك رهط من الصبايا يرقصن بعيداً عن أعين الرقباء، وإذا لمحْن القادم توقفن عن الرقص، ولكن زرادشت اقترب منهن قائلاً «داومن على رقصكنّ، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعجٍ للفرحين، وما هو بعدو الصبايا. فهل يسعني أن أكون عدواً، لما فيكنّ من بهاءٍ ورشاقة وخفة روح. وهل لي أن أكون عدواً للرقص الذي ترسمه هذه الأقدام الضوامر الرشيقات؟».
الرقص التعبير الناصع عن قوة الإرادة، وعن «العود الأبدي» المفهوم النيتشوي العتيد. يهتف، «ما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز، إلا عندما أدور راقصاً؛ لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها. وطمحت يوماً إلى الرقص متعالياً بفنّي إلى ما وراء السبع الطباق». ينطلق نيتشه في فلسفة الرقص إلى مفهوم الإرادة الرئيسي لديه الذي يؤكد على أنْ «لا إرادة إلا حيث تتجلى الحياة».
الحياة شرط للإرادة، وهو بهذا يتجاوز «تشاؤمية» شبنهور التي تضرب عن الوجود وتعتبره خطأ وتنظر إليه بالرؤية «الآسيانية»، وهي رؤية تأثر بها نيتشه في شبابه غير أنه سرعان ما تجاوزها بنظرية «إرادة القوة» والإرادة لا توجد من دون حياة، والمعرفة شرطها أن تكون «فرحة».
في مجمل تحليلات نيتشه في الفنون والموسيقى الكلاسيكية وللرقص يربطها بالجسدانية، وبالإرادة؛ ذلك أن «الحياة بأسرها هي نضال من أجل الأذواق والألوان، فويلٌ لكل حي يريد أن يعيش من دون نضالٍ من أجل الموزونات والموازين والوازنين». الذوق والألوان والمسائل الفنية جزء من إرادة الإنسان الحي، وهي التي تميّز الإنسان الأعلى عن الإنسان الأدنى.
بالتعبير الجسدي الراقص تتجلى الأنانيّة الواضحة بوصفها «الفضيلة» في الرؤية النيتشوية. يكتب عن هذا «ما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرّة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والأجساد إلا الفضيلة بعينها». تتجاوز رمزية الرقص وتعابيرها موضوع الإرادة لتصل إلى الأنانية الذاتية، والرقص في الظلمة تضيء الحكمة؛ إذ تبدو وامضة كأشباح الليل. ما يريده نيتشه من الإنسان «من الرجل والمرأة أن يكونا أهلاً للكفاح، وأن تكون المرأة أهلاً للولادة، وأن يكونا أهلاً للرقص». ثم يهتف «لنعدّ كل يومٍ يمر بنا من دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يوماً مفقوداً، ولنعتبر كل حقيقة لا تستدعي ولو قهقهة ضحكٍ بياناً باطلاً».
لم تنفصل رؤية نيتشه في الرقص عن الخيوط الأساسية التي تنتظم فلسفته المتشعّبة على طريقة «الدروب المتعددة»، فلسفة نيتشه تنتظم من خلال فوضاها، جامعها «المطرقة» التي يحرث بها الأرض اليباب. كتب عن نفسه «أعرف قدري، ذات يومٍ سيقترن اسمي بذكرى شيءٍ هائل، رهيب، بأزمة لم يُعرف لها مثيل على وجه الأرض، أعمق رجة في الوعي، فأنا لستُ إنساناً، بل عبوة ديناميت»؛ القوة رئيسية في فلسفة نيتشه بها نواجه الحياة ضد الخونة والجبناء والسذج؛ لذلك كتب نيتشه عن الأرواح الملوثة تلك «إنهم يلحقون بي نابحين».