ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

سارتر

هل كنت تعتقد أن الفوضويين قد انقرضوا؟ قطعاً لا، فهم ما زالوا على قدر وافر من العافية والنشاط، كما يؤكد الفنزويلي رافايل أوزكاتيغي، الذي صدر له مؤخراً كتاب ينتقد فيه بشدة حكومة نيكولاس مادورو، التي يتهمها بسوء معاملة المعتقلين السياسيين وتعذيبهم، وتدبير الاغتيالات ضد معارضيها. وهو عضو في جمعيات عديدة، تخلى عن ممارسة أعمال العنف ليكرس نشاطه من أجل أنبل القضايا: الدفاع عن المعتقلين السياسيين والبحث عن سبل حماية اللاجئين، أياً كانت الجهة التي ينتمون إليها، وعن البلدان التي ترغب في استقبالهم. وله أبحاث تخرج عن المألوف، لأن مثل هذه المواقف التي يدافع عنها ليست من عادات اليسار في أميركا اللاتينية، فضلاً عن أنه ليس مجرد منظّر، بل هو من الذين يقرنون القول بالفعل.
يحمل الكتاب عنوان «التمرد أبعد من اليسار»، ويطرح نظرية جذابة، لكنها خاطئة، أو مفرطة في المبالغة، مفادها أن الجدل الشهير الذي قام بين جان بول سارتر وألبير كامو عام 1952 في باريس، هو السبب في قلة النضوج المتأصلة عند اليسار في أميركا اللاتينية، ورفضها التعاون مع القوى التقدمية الأخرى، وانغلاقها العقائدي الذي يتميز به اليوم النظام الفنزويلي للتعايش مع الأنظمة الأخرى باستثناء النظام الكوبي. وفي ظني أن ذلك الجدل لم يكن له في أميركا اللاتينية الوقع الذي يتحدث عنه الكتاب، ولا المضمون العاصف الذي يدعيه صاحبه، بل إنه مر عليها مرور الكرام ولم يتوقف عنده سوى حفنة ضئيلة من المثقفين.
أذكر جيداً ذاك الجدل، لأني في ذلك الوقت كنت من أتباع سارتر المتحمسين ومؤيدي جميع مواقفه، بما فيها ذلك الذي ندم عليه لاحقاً، أي عندما قال إن في الاتحاد السوفياتي الذي زاره بمعية سيمون دي بوفوار عام 1953، كان المواطنون يتمتعون جميعاً بحق انتقاد الحكومة، ثم اعترافه بأنه كذب عندما كتب ذلك. وأذكر بشكل خاص، الصعوبة الكبيرة التي واجهتنا مع أستاذتي في التحالف الفرنسي، السيدة سولار، طيبة الذكرى، كي ننشر في مجلة «الأزمنة الحديثة» مقالة فرنسيس جينسون التي كانت حافلة بالأكاذيب والادعاءات ضد ألبير كامو، وما تبعها من مقالات لسارتر وكامو. وبعد وفاة هذا الأخير، وهو كان لا يزال في السادسة والأربعين من عمره، في ذلك الحادث السخيف، نشر سارتر رسالة حميمة قال فيها إن كامو كان أفضل أصدقائه. لا أعتقد ذلك، لكن الحقيقة على أي حال هي أن كليهما كانا يتنافسان على الزعامة الفكرية لفرنسا يومذاك.
كان أساس ذلك الجدل القمع الشديد الذي كان يمارسه ستالين ضد الديمقراطية، أي معسكرات الاعتقال التي كانت تكتظ بالمنشقين، الفعليين أو المزعومين، في الاتحاد السوفياتي. لم يكن سارتر ينكر وجودها، لكنه كان يبررها بذريعة اشتراكية المستقبل التي كان يقول إنها ستقضي على الفوارق الاجتماعية التي كانت تحاربها تلك الحكومة المحاصرة من أعدائها اليمينيين في كل أنحاء العالم، وتلجأ إليها للدفاع عن نفسها، أي كما لو أن الدم البريء يقتص من الدم المذنب. أما كامو، فكان يعتبر أن من واجب الإنسان الصالح والنزيه، الذي يحترم حقوق الإنسان، إدانة تجاوزات الاتحاد السوفياتي ضد المنشقين، بمثل الحزم الذي يدين به قمع الأنظمة والحكومات اليمينية. هذا الموقف كان أنصف وأصوب بكثير، رغم أن بعضنا لم يكن يدرك ذلك.
منذ ذلك الوقت انقسم أنصار سارتر وكامو، وكانوا من صفوة المفكرين الفرنسيين، وتشتتوا في تيارات متخاصمة. وأعترف شخصياً أن إعجابي بسارتر آنذاك دفعني إلى تأييده لسنوات قبل أن أخرج من دائرة أنصاره عندما صرح في حديث مع مادلين شاسبال مديرة الصفحة الثقافية في جريدة «لوموند» بقوله إن على الكتاب الأفارقة التخلي عن الأدب والانصراف أولاً للثورة الاشتراكية. هو الذي علمنا أن كتابة الأدب ليست حكراً على فئات أو جنسيات معينة، واستنكر، في جملة ما استنكر، ردود الفعل الرجعية، كان يطلب إلينا، كمثل أي متعصب آخر، أن نقوم بالثورة الاشتراكية قبل أن ننصرف إلى الأدب والكتابة. ذلك التصريح كان بالنسبة إليّ، أنا الذي كان قراري الانصراف للأدب يعود بنسبة كبيرة إلى تعاليمه، خاتمة إعجابي بالفيلسوف الفرنسي. هذا ما كنت أعتقده، لكني ما زلت إلى اليوم أكتشف في قرارتي أن شغفي القديم بذلك المفكر الوجودي يعاودني من حين لآخر، عندما تذكرني بعض الكتب وتعليقات الصحافيين أو أسئلتهم، بالأفكار والأفعال الإيجابية التي كتبها أو قام بها، وهي ليست بالنذر القليل.
لكن ذلك الجدل بين سارتر وكامو اقتصر على صفحات «الأزمنة الحديثة»، ولم يترك أثراً على الإطلاق في أميركا اللاتينية. على أي حال، أنا لا أذكر له أي وقع، علماً بأني في تلك المرحلة كنت ناشطاً جداً في الشأن السياسي على امتداد القارة الأميركية. وأعتقد أن موقف الشيوعيين في البيرو من ذلك الجدل اقتدت به جميع البلدان الأخرى في أميركا اللاتينية، رغم أنه ربما ترك بعض الأثر في المكسيك أو الأرجنتين، أي في البلدان الكبرى. لكن رافايل أوزكاتيغي يرى عكس ذلك، ومن قراءة كتابه يتكون لديك الانطباع بأن أهل اليسار في القارة الأميركية انقسموا، بعد أن بلغهم ذلك الجدل، بين مؤيد للخط الستاليني المتشدد ضد التيارات الاشتراكية الأخرى، ومستصوب لحصافة كامو. على أي حال، أنا لم يبلغني شيء من ذلك الجدل الكبير، ولا أعتقد أنه حصل فعلاً.
في اعتقادي أن تطرف اليسار في أميركا اللاتينية كان نتيجة مباشرة لما كان يجري في موسكو، وأن القادة الشيوعيين كانوا مجرد أدوات بليدة، ولذلك لم تزدهر أبداً الأحزاب الشيوعية في البلدان الأميركية اللاتينية، بما في ذلك ما حصل في بوليفيا إبان المرحلة الأولى من عهد باز استنسورو. بعد ذلك، قام الجدل حول الحركات الثورية التي كان الشيوعيون وموسكو يشعرون بحساسية كبيرة تجاهها، لكن فيديل كاسترو كان يؤيدها ويوزع ملايين النسخ من كتب المفكر اليساري الفرنسي ريجيس دوبريه. وإني أذكر ذلك النقاش الواسع الذي دار في أرجاء القارة الأميركية اللاتينية، وتسبب في وقوع عدد كبير من الضحايا، حتى في البيرو.
إلى ذلك، قراءة كتاب رافايل أوزكاتيغي سهلة، وممتعة ومقنعة. حبذا لو كان في أميركا اللاتينية يسار عاقل كذلك الذي يصفه في كتابه الذي أدهشني أنه نشر في فنزويلا بحلة عصرية تجمع بين الرسوم الفكاهية والبحوث الرصينة، وتوطئة بقلم توماس ايبانييز. لكن اليسار الذي يتحدث عنه الكتاب لا وجود له، أو أنه ليس على القدر الكافي من القوة لضخ الاعتدال الديمقراطي في صفوف اليساريين المتشددين الذين يصرون على هوسهم الستاليني، كما يتبين لنا هذه الأيام من مواقف جميع الحكومات اليسارية تقريباً في أميركا اللاتينية، التي التزمت الصمت، أو أيدت ضرب الجنون الذي أقدم عليه فلاديمير وأتباعه عندما قرر غزو أوكرانيا وارتكب جرائم فظيعة بحق أهلها، متهماً حكومتها بأنها عصابة من النازيين.
لا أظن أن للفكر الفوضوي مستقبلاً في أميركا اللاتينية، ولا في العالم. إنها عقيدة خاطئة من بداياتها، عندما كان أتباعها يمارسون القتل والقصف ضد أعدائهم المزعومين من البورجوازيين، ما أدى إلى رفضها من غالبية الناس واقتصار مؤيديها على أوساط محدودة جداً.
لكن يثلج الصدر أن رافايل أوزكاتيغي، ورفاقه، ينحون إلى الاعتدال والانفتاح، ويلتزمون الفكر الديمقراطي في نشاطهم السياسي، بعكس أسلافهم الذين نعرف ماذا جرى لهم.
لم أشعر يوماً بالتعاطف مع الفكر الفوضوي، رغم أني كروائي كنت ميالاً إليه بسبب من الحياة المغامرة التي عاشها كثيرون من زعمائه، بخاصة باكونين، التي كانت تغري بسردها لولا وفرة الأدب المتراكم حولها. رافايل أوزكاتيغي ورفاقه أقل عنفاً من أسلافهم المخضرمين من الجيل السابق، وأكثر فاعلية في نضالهم من أجل كرامة جميع اللاجئين في العالم، الذين يعدون بالملايين ويتنوعون في مشاربهم وظروفهم. إنه موقف صائب، يدعو إلى مساعدتهم من غير السؤال عن هويتهم، أو عن الأسباب التي دفعتهم إلى اللجوء. كلهم يستحقون الرحمة والمساعدة، برغم تلك الأفكار التي صدرت عن جان بول سارتر في الجدل الذي قام بينه وألبير كامو.