د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

هل آتت العقوبات أُكُلها؟

منذ أن بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، انهالت العقوبات على روسيا من كل حدب وصوب، وتسابقت دول العالم الغربي على فرض هذه العقوبات التي تنوعت بين عقوبات ذات أهداف استراتيجية وأخرى لا تهدف إلا لإرضاء الرأي العام والناخب الغربي. وبدأت نتائج الحرب والعقوبات تظهر سريعاً على الاقتصاد الروسي، فخسر الروبل ربع قيمته أمام الدولار، وانهارت البورصة الروسية قبل أن توقفها الحكومة الروسية، وبدا للعالم وكأن الاقتصاد الحادي عشر عالمياً الذي يبلغ حجمه 1.8 تريليون دولار على وشك الانهيار. واليوم، وبعد مُضي ستة أشهر على بدء الحرب، لا يزال الاقتصاد الروسي صامداً، وبل ويبدو أفضل حالاً من بعض كبريات الاقتصادات، فهل حققت العقوبات المفروضة على روسيا أهدافها الحقيقية؟
أرادت الدول الغربية تحقيق ثلاثة أهداف من خلال فرض العقوبات على روسيا، الهدف الأول قصير المدى، وهو تجفيف مصادر الدخل الروسية التي تمول آلة الحرب على أوكرانيا. وفي بداية الحرب أعلن البيت الأبيض أن الاقتصاد الروسي قد يخسر 15 في المائة من قيمته هذا العام، أي أنه سيخسر مكاسب أكثر من عقد من الزمن خلال عام واحد. ومن خلال عدد من العقوبات مثل تجميد الاحتياطيات الروسية التي تزيد قيمتها على 580 مليار دولار في البنوك الغربية، كان العالم الغربي يبدو واثقاً من قدرته على تحطيم الاقتصاد الروسي. وقد تأثر بالفعل الاقتصاد الروسي خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان) (بشكل أقل بقليل من تأثره إبان الأزمة المالية عام 2008)، ولكنه عاد للتعافي في الأشهر التالية. كما أن التوقعات أشارت إلى أن التضخم قد يتعدى 17 في المائة في روسيا، إلا أنه ومنذ بداية السنة لم يزد على 10 في المائة (أقل من عديد الدول الأوروبية). وقد زاد التضخم في روسيا بفعل انخفاض الروبل وبالتالي زيادة أسعار الواردات، بينما لم يتأثر على الإطلاق بزيادة أسعار الطاقة كما هو الحال في الدول الأوروبية. وبذلك فإن الهدف الأول من هذه العقوبات لم يتحقق، فأداء الاقتصاد الروسي فاق التوقعات خلال الستة أشهر الماضية، بل إنه تفوق على ألمانيا والولايات المتحدة في بعض المؤشرات الاقتصادية (مؤشر النشاط الحالي).
الهدف الثاني كان متوسط المدى، وهو إيقاف القدرة الروسية على التطور التقني لإضعاف قدرتها على دخول حروب مستقبلية وهو هدف استراتيجي للدول الأوروبية التي تخشى أن تنتقل روسيا إلى دولة أخرى بعد فراغها من أوكرانيا. وتعتمد روسيا - كغيرها من الدول - على الواردات الغربية التقنية مثل قطع غيار الطائرات التي يتوقع أن يقف نحو 20 في المائة منها عن العمل خلال السنوات الثلاث القادمة بسبب عدم توفر قطع الغيار. ولقد سبب قطع بعض سلاسل الإمداد عن روسيا مشاكل في القطاع الصناعي الروسي الذي قد يتأثر بالفعل خلال السنوات القادمة إن لم يجد الروس مخرجاً. ولم يتضح حتى الآن مدى فعالية هذه العقوبات، التي قد تذهب في أي اتجاه بحسب قدرة روسيا على التكيف مع هذه الصدمة.
الهدف الثالث كان أشبه ما يكون بالهدف التأديبي، فقد حرصت دول العالم الغربي على إعطاء درس لأي دولة تحاول أن تُغير على أخرى، والمقصودة بذلك بكل تأكيد هي الصين التي قد تغزو تايوان. هذا الدرس لا يبدو جيداً في الوضع الحالي، فروسيا تمكنت حتى الآن من تجاوز العقوبات المفروضة عليها، بل قد يكون هذا الدرس عكسياً، فإن أرادت دولة دخول حرب، فهي بكل تأكيد ستدرس الحالة الروسية كسيناريو مستقبلي محتمل وتحاول إيجاد حلول استباقية للعقوبات التي قد تفرض، خاصة أن العالم الغربي استنفد ما في جعبته من عقوبات.
لقد تمكنت روسيا من تخفيف – على أقل تقدير – العقوبات المفروضة عليها، ويعود ذلك إلى ثلاثة أسباب، أولها أن البنك المركزي الروسي تحرك سريعاً في بداية الأزمة بإجراءات مثل مضاعفة سعر الفائدة، كما أن الرئيس الروسي أعطى الثقة المطلقة للبنك المركزي الذي يوظف عباقرة في الاقتصاد. السبب الثاني سبق وأن صرح به وزير الدفاع الروسي (سيرجي شويغو)، وهو أن الروس يمكنهم تحمل المعاناة أكثر من غيرهم، وأن هذه الأزمة هي الخامسة خلال أقل من 25 عاماً، بعد أزمات الأعوام و1998 و2008 و2014 و2020؛ أي أن أي مواطن روسي تعدى عمره الأربعين سنة سبق وأن عايش أربع أزمات اقتصادية على الأقل، ووضح الوزير أن المواطن الروسي لديه القدرة على التكيف مع الأزمات، بدلاً من الذعر أو التمرد على الحكومة. السبب الثالث هو زيادة عوائد النفط والغاز، فروسيا باعت خلال أشهر الحرب لأوروبا وحدها ما قيمته 85 مليار دولار من النفط والغاز بحسب تقرير وكالة الطاقة الدولية، هذه العوائد غذّت الاقتصاد الروسي وزادته صموداً أمام العقوبات الغربية.
لقد راهن العالم الغربي على العقوبات قصيرة المدى لتأديب روسيا، ولكن روسيا تمكنت حتى الآن من تجاوز معظم هذه العقوبات، وما زال اقتصادها صامداً وبأداء أفضل من العديد من دول العالم التي عانت من التضخم وارتفاع أسعار الطاقة. وقد يتراجع العالم الغربي عن بعض هذه العقوبات حتى لا تتسبب هذه العقوبات بإلحاق الضرر به، وقد يكون فرض حد أعلى على صادرات النفط الروسي أول هذه التراجعات، ويبدو أن الوقت في مصلحة روسيا، وليس العكس، والشتاء قريب ليكشف عن ذلك.