جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أفغانستان في العهد الطالباني الثاني

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، اجتاحت قواتُ حركة «طالبان» المدن الأفغانية الرئيسية، ودخلت العاصمة كابل، بعد عشرين عاماً من إقصائها عنها، في عام 2001.
لا شيء، بعد مرور عام كامل على عودة حركة «طالبان» إلى الحكم في أفغانستان، يؤكد أن العهد الطالباني الثاني يفضلُ سابقه. فالسلام المؤمل والموعود لم يأتِ كما تعهد الطالبانيون وأمِل المتعاطفون. والأحداثُ المعيشية في كابل لا تسرُ الأفغانيين، وسببت متاعب للدول المجاورة، وخاصة باكستان بسبب تضاعف أعداد المهاجرين إليها.
الحركة التي ظهرت على السطح عام 1994. واعتلت السلطة عام 1996 للمرّة الأولى، ظلت على حالها من تشددها العقائدي، وانغلاقها الآيديولوجي، وكأنها صَدَفة متحجّرة. بل، يمكن القول، إن قادتها لم يتعلموا من دروس المرحلة السابقة، ولم يقوموا بإجراء نقد ذاتي لمرحلة وجودهم في الحكم، والنهاية التي آلت إليها حركتهم. وما يتسرب في الأخبار، عبر وسائل الإعلام الدولية، عن تململ في كوادر الحركة الشابة من تصلب قادتهم الشيوخ، يظل صوتاً واهناً بالكاد يُسمع، وليس مؤذناً، كما يؤمل البعض، بتغيير محتمل وقريب.
اللافتُ للاهتمام حقاً، هو قدرة الحركة بعد الهزيمة في عام 2001 على النهوض وإعادة بناء نفسها عسكرياً في وقت قصير. أسئلة كثيرة يجدها المرءُ بارزة أمامه، من دون أن يجد لها إجابات. ومن ضمنها السؤال المتعلق بنجاح الطالبانيين في النهوض من الهزيمة، وإعادة تجميع أنفسهم، والعودة سريعاً إلى الساحة والقتال وتحقيق النصر واعتلاء السلطة ثانية، في حين أن قوى سياسية أخرى، في الفترة الزمنية نفسها تقريباً، تعرّضت للمحنة نفسها وتلاشت كلية، ولم يعد لها وجود. حزب البعث العراقي مثالاً.
ومع ذلك، يمكن القول إن العهد الطالباني الثاني، الذي بدأ يوم 15 أغسطس (آب) الماضي، يتميّز عن سابقه، ليس بما حدث من تغييرات أو عدمها في حركة «طالبان» خلال العقدين الأخيرين، بل بما حدث في أفغانستان وخارجها من تغيّرات، وجدها الطالبانيون ماثلة أمامهم لدى عودتهم؛ في مقدمتها، أن جيلاً أفغانياً ولد ونما وترعرع في مناخ سياسي منفتح نسبياً، بعيداً عن تخشّبهم العقائدي، وأن المرأة الأفغانية تمتعت باسترداد هامش حرية صادره الطالبانيون، أتاح لها الحضور في قطاعات حياتية كثيرة ومهمة، وأن التعليم بمختلف مراحله كان مفتوحاً ومتوفراً أمام الجميع، والذين منهم لم تتح لهم فرصة الهروب والعيش في المنافي بعد دخول «طالبان»، وبقوا في البلاد، سيكون، في رأيي، من الصعوبة بمكان على الحركة تدجينهم وتطويعهم عقائدياً، أو تجنيدهم في كوادرها، كونهم عاشوا حياتهم خارج الكهوف الطالبانية، بمعناها الحرفي والمجازي.
الأمر الآخر، أن قوى أكثر تشدداً من «طالبان» قد وُجدت على الساحة، بعد هزيمة «طالبان» عام 2001. ممثلة في الدولة الإسلامية (داعش)، وأن كوادرها موجودة في أفغانستان، وتنازع «طالبان» القيادة، وتقود حرب عصابات وتفجيرات، آخرها كان بعد يومين فقط، من احتفال حركة «طالبان» بعودتها إلى الحكم، بتفجير مسجد تسبب في مقتل مواطنين أبرياء وجرح آخرين. وهناك، أيضاً - الوضع الاقتصادي السيئ؛ إذ إن الدول التي سحبت قواتها من أفغانستان سحبت معها كذلك الدعم الاقتصادي، مضافاً إلى ذلك، إفلاس الخزائن الطالبانية، وانتشار الفاقة والمجاعة. الإحصائيات الغربية تتحدث عن 6 ملايين أفغاني مهددين بالمجاعة وانتشار الكوليرا، في بلد تكاد تنعدم فيه خدمات الرعاية الصحية، مما استدعى تدخل منظمات الإغاثة الدولية، وإعلان حالة طوارئ، وأن المصارف الغربية ما زالت تصرّ على تجميد الودائع الأفغانية في خزائنها، وترفض صرفها لحركة «طالبان»، خوفاً من استخدامها في شراء أسلحة وذخائر، وأن الولايات المتحدة جمّدت مؤخراً المفاوضات مع حركة «طالبان» الرامية إلى تسليم مبلغ 7 مليارات دولار مودعة في مصارفها إلى الحكومة الطالبانية، بعد اكتشاف وجود زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري مختبئاً في كابل، ثم قتله فيما بعد. والعودة إلى اقتصاد قائم على زراعة وتصدير نبات زهر الخشخاش ليس ممكناً، وفقاً للتحريم الطالباني، مضافاً إلى ذلك أن الجارة باكستان في وضع اقتصادي حرج وينذر بكارثة، كما يؤكد خبراء مختصّون. وربما لتلك الأسباب، سعى قادة الحركة مضطرين إلى إبداء شيء من مرونة، غير معروفة عنهم، في تعاملهم مع عروض صينية وروسية بالمساعدة، بأمل منح شركات من البلدين امتيازات للتنقيب عن المعادن. وقبل هذا وذاك، لم تحظَ حركة «طالبان»، حتى الآن، باعتراف أي دولة في العالم، احتجاجاً أو عقاباً، على سياساتها الرافضة لتعليم البنات بعد المرحلة الابتدائية، في خرق واضح لاتفاق السلام الموقع مع واشنطن، إضافة إلى تخلّيها عن وعدها، في الاتفاق نفسه، بمشاركة كل ألوان الطيف الأفغاني في الحكم.
من جهة أخرى، فإن العالم عقب أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، ليس العالم نفسه عقب محنة انتشار الفيروس الوبائي، وقبلها محنة ظهور الحركات الشعبوية في أوروبا، وأزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحالياً كارثة الحرب الدائرة في أوكرانيا، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي سببتها تلك الحرب لاقتصادات العالم، وانعكاساتها السلبية دولياً.