يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

استعادة الهدوء: رسائل إيران إلى السعودية

بالأمس صرح الإيرانيون تصريحاً في غاية الأهمية وهم يخوضون مرحلة صعبة جداً فيما يخص الاتفاق النووي. التصريح جاء على لسان وزارة الخارجية الإيرانية، وأكد أنه لا يمكن استعادة الهدوء في المنطقة إلا بالتعاون بين طهران والرياض، وأن أمن الشرق الأوسط متوقفٌ على ذلك.
لكن الأكثر أهمية هو ما وراء التصريح الذي جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، الذي قال إن الحوار والمحادثات بين السعودية وإيران مسألة منفصلة عن سياق محادثات إحياء اتفاق طهران النووي المتعثر منذ 2015، وذلك وفقاً لما نقلته وكالة «رويترز».
وفي تعليقات إيرانية مشابهة تداولتها التقارير الصحافية تعليقاً على بيان «استعادة الهدوء»، أن التحدي هو نقل مسألة الحوار إلى مستوى أعلى، تحديداً المستوى السياسي المتمثل في لقاء مشترك بين وزيري الخارجية في بغداد.
استعادة الهدوء تكشف عن استراتيجية مزدوجة إيرانية؛ ما يمكن تسميته ثنائية الاتصال والانفصال، فهم يريدون تحييد السعودية والحوار معها عن مسألة الاتفاق النووي، وأيضاً فصل الاتفاق ذاته عن مسألة أكبر ومظلة لطالما ركزت عليها السعودية ودول الاعتدال في مقاربة التعامل الغربي والأميركي بشكل أخص مع طهران، وهو عدم عزل السلوك في المنطقة عن الاتفاق النووي لأسباب اقتصادية بحتة براغماتية، وهو الشيء ذاته الذي طالبت به السعودية، وهو ضرورة أخذ مخاوف دول المنطقة من سلوك إيران ومشروعها المهدد الذي يطال حتى الولايات المتحدة نفسها، وكان آخرها توجيه وزارة العدل الأميركية الاتهام لشهرام بورصافي، وهو مواطن إيراني مقيم في طهران، بالتخطيط لقتل مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون. بورصافي - حسب التقارير الأميركية - عضو في «الحرس الثوري» الإيراني، وقدم عرضاً بما يزيد على مليون دولار لتنفيذ مهمة الاغتيال.
السؤال الأهم هو محاولة فهم سلوك إيران التفاوضي ورسائلها السياسية، التي وإن كانت تأتي في سياق عام كرد على إيجابية السعودية، التي بدت في تصريحات ولي العهد في مؤتمر جدة وقبلها في عدد من المقابلات، والتي تجلت أيضاً في عودة الحجاج الإيرانيين، لكن اللهجة الإيرانية أيضاً أدركت مسألة «الأوزان السياسية»، والصعود للسياسة الخارجية السعودية التي استهدفت توحيد دول المنطقة، ورفع مسألة المصالحة كأولوية سلام وتطلع لبناء مستقبل المنطقة، وتجلت في مسألة التغاضي عن الاستفزاز للميليشيات الحوثية التابعة لطهران، والتأكيد على استمرارية الهدنة، وأخذ زمام المبادرة في رعاية الأطراف اليمنية وإدارة أزماتها الداخلية.
الرسائل الإيرانية للسعودية حول استعادة الهدوء، هي مثل كل الرسائل الدبلوماسية التي أرسلها من قبل حمائم طهران للغربيين؛ لا يمكن الاعتماد عليها رغم قبولها إلا إذا تحولت إلى استراتيجية بناء وتغيير سلوك، لا سيما أن التاريخ القريب يؤكد نمطاً سياسياً مزدوجاً، حيث يفاوض حمائم طهران في ديار الغرب ببدلات أنيقة بلا ربطة عنق، بينما يسهر صقور فيلق «الحرس الثوري» للحفاظ على وجه الدولة الثوري وخلق مناطق توتر جديدة وكسب أكبر قدر من الوقت لبيع وهم اتفاقية السلاح النووي وتطويره، وهو ليس إلا ورقة سياسية ضاغطة تمارسها إيران ببطء وترقب ضد اندفاع الغرب لمنجز سياسي، وكعامل جذب شعاراتي يتم تضخيمه لاستقطاب أكبر قدر من المؤمنين بالمشروع الثوري الإيراني، أو حتى الذين يمكن لهم أن يستغلوه ويتحالفوا معها على مستوى الدول المتنافسة مع الغرب، من الصين إلى روسيا أو التنظيمات والمكونات السياسية التي أيضاً تجتمع مع الخط العام للخطاب الإيراني المناهض للغرب، وفي كل الأحوال يظل التأكيد السعودي في كل مرة مؤكداً ثوابت وركائز الاستراتيجية السعودية في خطها العام، الذي عبر عنه بوضح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي أكد في أكثر من مناسبة أن الأزمة مع إيران في المقام الأول هي أزمة سلوك سياسي، وبالتالي فإن الأفعال وحدها، وليست التصريحات أو محاولة استمالة السعودية دبلوماسياً في القنوات الغربية، يمكن أن تقود إلى تحريك للأزمة التي صنعتها طهران بسلوكها ومشروعها الذي يستهدف الاستقرار والسيادة.
رسائل إيران جاءت لتؤكد نجاعة السياسة الاستباقية السعودية الجديدة وجدواها في مقاربتها للملفات الكبرى، منها الموقف من إيران، التي عبر مؤتمر جدة عنها بوضوح، وتمنت رسالة ذات مضمون أخلاقي في توقيت استثنائي تهدف إلى التأكيد على أنها أول من يدعم أي انفراجة تقود إلى السلام والنهوض بالمنطقة والتنافسية نحو المستقبل، لكن ذلك مرهون بأفعال وتغيير للسلوك، وهو مفارق تماماً للمقاربات الانتهازية من بعض الدول الغربية التي بدلاً من فض النزاعات وحل القضايا العربية العالقة والمصيرية على أساس عادل، تلجأ إلى منطق سياسي جديد وبراغماتي مبني على أسلوب الصفقات والتفاهمات وشرعنة التدخل السيادي للدول، بل والحرب بالوكالة والوقوف ضد إرادة الشعوب، وهذا ما بات مرفوضاً اليوم في دول المنطقة بغض النظر عن مآلات الاتفاق النووي.