د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

«حرب الاستنزاف» في العمل

مثلما هناك حروب «تستنزف» طاقة جيوش العدو، هناك من يتعمد استنزاف طاقتنا كأفراد في بيئات العمل. وقد ذاع صيت مفهوم «حرب الاستنزاف» في الحرب العالمية الأولى، عندما حاولت بريطانيا وفرنسا تقويض القوة العسكرية الألمانية، عبر تكبيدها أكبر قدر ممكن من الخسائر المادية، وتدمير معنويات «العدو»، ليدور في حلقة مفرغة من المواجهة. وكذلك ما حدث في حرب الاستنزاف بمنطقتنا عام 1968، وحرب فيتنام، وغيرها.
والاستنزاف ليس حيلة استراتيجية عسكرية فحسب، فهناك من يحاول أن يجرنا نحو صراعات، أو مواجهات، أو نقاشات عقيمة ليشغلنا عن معركة التنافس الشريف (الإنتاجية في العمل). فعندما تتقطع السبل عند أنصاف الموهوبين وأنصاف الأكفاء، يجدون أنفسهم مضطرين إلى سلاح الاستنزاف؛ مثل أن يعين هؤلاء من يشكل خطورة عليهم في وظيفة هامشية، أو يغدقون عليه أموالاً لاستدراجه إلى منصب محفوفٍ بالمخاطر، لعله يرتكب خطأ فادحاً يسدل الستار على مسيرته. فالمال يخدر البعض، وربما يحجب رؤيتهم عن الأخطار المحدقة.
بعض المسؤولين حينما تفلت منه زمام الأمور ولا يعود قادراً على إدارة الأقوياء العاملين تحت إمرته في شتى القطاعات، يجد نفسه يميل نحو تشتيت جهودهم أو إشغالهم. هؤلاء ينسون المعادلة الشهيرة، بأن قوة القيادي تُستمد من قوة من حوله. فكرة الخوف من مرؤوسين أكفاء هو دليل صارخ على ضعف الشخصية، أو خلل في فهم دور القيادي الذي يفترض أنه يشرف على ثلة من المميزين ليصل بهم إلى وجهته.
هناك من يستنزف صبرنا، بدفعنا وراء سراب الوعود البراقة. وهناك من يستنزف مهاراتنا في إشغالنا بشغفنا البعيد كل البعد عن صميم العمل. فمن استراتيجيات الاستنزاف إلهاء الآخر بما يحبه الذي لن يقدمه قيد أنملة في مسيرته الوظيفية، كأن يشغل أحدهم في الإعلام، أو التنظيم، أو التنسيق، أو التصميم، أو الشكليات التي لا تنعكس على التقييم السنوي للموظفين.
مثلما تخطط الجيوش من أجل البقاء، فهناك بشر يُعْمِلون عقولهم للنيل ممن حولهم بمسوّغات، بعضها مشروع لكنه مغلف بنية سيئة ليبقى كرسيه في مأمن. وقد تعلم البشر كثيراً من الجيوش. فقد ظهرت بواكير استراتيجيات الإدارة من ميادين الحروب، وفي مقدمتها كتاب «فن الحرب» الذي كتبه الصيني سون تزو Sun Tzu في القرن السادس قبل الميلاد. وهي أطروحة ألقت بظلالها على التخطيط الاستراتيجي العسكري والإداري والتنافسي إلى يومنا هذا. ورغم قيمته فإنه لم يترجم إلا قبل مائتي عام في أوروبا. قيل إنه أثر على نابليون والجيش الألماني، واستُخدمت بعض استراتيجياته في «عاصفة الصحراء» لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. فحوى تلك الأدبيات هي أن تبقى الجيوش وأفرادها في مأمن من الآخر.
فسياسة البقاء دفعت الإنسان نحو التنقيب عن كل ما من شأنه ضمان استمراريته وتنافسيته في هذه الحياة. غير أن أولئك الذين تقدموا بخطى ثابتة في مسارهم الوظيفي، لم تشتتهم تلك المعارك الجانبية عن المضي قدماً نحو أهدافهم المشروعة في العمل. ولهذا صاروا ممن يشار إليهم ببنان الإعجاب.