خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الحقيقة مرة... لكنها الطريق إلى اقتصاد أفضل

قوانين الجاذبية موجودة في الكون قبل نيوتن وبعده. حكمت وتحكم وستحكم التجاذب بين الأرض والقمر والتفاحة والقلم الرصاص، سواء أدركها البشر أم لا. بعبارة أخرى، إنها كائنة طبيعياً، سواء كانت كائنة معرفياً لدينا أم لا.
ينطبق المنطق نفسه على مئات الأمثلة الأخرى. أشهرها علاقتنا بالأمراض. قبل شيوع المعرفة الجرثومية كانت الميكروبات الدقيقة موجودة، كائنة طبيعياً. لكنها لم تكن كائنة معرفياً لدينا. هل توقفت عن إصابتنا بالأمراض حتى نكتشفها ونتعرف عليها؟ أبداً. هل استجابت لتفسيراتنا القديمة القاصرة عن أسبابها ومبطلاتها؟ أبداً.
لكن حين عرفنا الميكروبات، ثم اكتشفنا طرق عملها، استطعنا أن نتغلب على كثير من الأمراض. نستطيع أن نقول: حين اقترب الكائن معرفياً لدينا، مع الكائن طبيعياً، أحرزنا نجاحات بإجراءات علمية. من أول غسل اليد بالصابون وصولاً إلى المضادات الحيوية.
لم يكن اقتراب الكائن معرفياً من الكائن طبيعياً بالمهمة السهلة. حتى العلوم التجريبية واجهت تحديات من أصحاب السلطة المعرفية، الذين دافعوا عن بقاء المعرفة داخل إطار إدراكهم، أو تطورها في الاتجاه الذي يحددونه. واضطهدوا الذين حاولوا تقريب المعرفة من الكائن طبيعياً، من جاليليو إلى تشارلز دارون.
التحدي قائم حتى وقتنا الحالي. ليس بشكل أساسي في العلوم التجريبية لأن زخم نجاحاتها يدفعها إلى الأمام، ويحقق مصلحة مباشرة للبشر. إنما في العلوم الإنسانية. حيث مجال الآراء أوسع من مجال الحقائق. وحيث توجد مهن قائمة بالكامل على ترويج الرأي، وتسويق التمني، وتقبيح المخالفين، لا على التحقق من موافقة هذه الآراء لما هو كائن طبيعياً، فإن فشلت حولت مهمتها إلى تبرير الفشل بأنه في التطبيق لا في النظرية، وعادت إلى مهارتها الأساسية فساقت على ذلك ألف حجة كلامية، متجاهلة السبب الحقيقي الوحيد لذلك الفشل: أن الكائن معرفياً لديهم لا يستقيم مع الكائن طبيعياً.
ما من معركة بين الكينونات المعرفية المختلفة، إلا وكانت في الحقيقة معركة حول الكائن طبيعياً. إن أراد الاشتراكيون مجتمعاً بلا رؤوس متميزة، أشاعوا أن الإنسان في طبيعته كائن مشاعي، تقاسم دائماً محصلة الصيد وعاش في مجتمعات يتساوى فيها الأفراد. وهي مقولة تعتمد على التمني، لكنها ليست حقيقية في المجتمعات البشرية التي تطورت.
المجتمعات البشرية بقي فيها الأنسب للظروف المحيطة. وعرفت دائماً هرمية قيادية تصارع عليها البشر وحظي بها بعضٌ دون السواد الأعظم. وفيها أيضاً تعاونية إيجابية قائمة على تحقيق مصلحة المتشاركين فيها، لا المتكاسلين عنها. وتوصلت إلى صيغة للعدالة القانونية في الثواب والعقاب. لو أمعنا النظر إلى مجتمعات القردة العليا في الطبيعة لفرقنا فعلاً بين ما هو كائن طبيعياً وما هو نتيجة تلقين ثقافي.
لكي يتحلل الإنسان من ضغط «الكائن طبيعياً»، ويخلق كينونة معرفية ترضيه، طور قدرة متفردة على خلق الأساطير. الأساطير هنا لا تأتي بمعنى الخرافات، بل بمعنى خلق سرديات محببة يمكن ترويجها بديلاً عن حقائق مرة يعيشها الكائن الطبيعي. الكائن طبيعياً أمامنا أن البشر متمايزون في القدرة على إصلاح الأجهزة، وفي قوة التحمل، وفي اللياقة البدنية، وفي التحصيل الأكاديمي، وفي مهارة كرة القدم... وهلم جراً.
كما أن كثيراً منا ليس موهوباً موهبة متميزة في شيء، أو موهوباً في أشياء لا يحتاجها غيره، ربما يكون بصحة أفضل، أو كيمياء عقله تجعله أسعد، أو جهازه العصبي يجعله أكثر استمتاعاً بالحياة، لكننا نخلق أسطورة المساواة من أجل غرض واحد فقط، الثروة المادية. المشكلة هنا أنه كلما زاد المجتمع حقداً، زادت الأسطورة نفوذاً وشهرة وسطوة. بهذه الأسطورة يكسب الكسول أكثر مما يستحق. ونسمي هذا عدلاً ومساواة. المجتمع ككل يخسر على المدى البعيد من إحباط المواهب، لصالح التواكل والاستحقاق والسعادة بعيشة الكفاف والتكسب بالكثرة العددية للأبناء.
النجاح الاقتصادي الذي حققته الرأسمالية بدأ من قدرتها على إدراك مفردات ما هو كائن طبيعياً، إدراك أهمية غريزة التنافسية في تطور المجتمع الإنساني، وعلو موقع الملكية الخاصة من أولويات الكائن الحي، الذي يدشن وضعه الاجتماعي بتحديد «حمى» آمن والدفاع عنه، سواء كان قطعة من أرض، أو جحراً أو عشاً، كما إدراكها للتنوع البشري الرهيب في إنتاج الأفكار واستخدام المهارات، وفي أولويات الاستهلاك، النابع بدوره من تنوع رغباتهم. هذا تنوع لا يمكن الإلمام به نظرياً. فرصتنا الوحيدة أن نمنحه الحرية للتعبير عن نفسه، أن نمنحه الحرية لينتج ما يجيد إنتاجه، ويستهلك ما يعجبه، ولا نعاقبه ضمنياً على هذا ولا ذاك. وأخيراً إدراكها لأهمية المسؤولية في ضبط القرارات الاقتصادية للأفراد. هذا الإدراك لما هو كائن طبيعياً - الحرية، التنافسية، التعاونية، المسؤولية - حرك الاقتصاد، وحرك الابتكار، وأسهم في رفاهية الإنسان.
في المقابل فإن الفشل الاقتصادي الذي أنجزته الإدارة المركزية حيثما حلت نابع من اعتمادها على معرفة أسطورية، تكلف نفسها بمهام فوق طاقة البشر، أوقحها مهمة تغيير طبيعة البشر، وأسخفها الادعاء بمعرفة أولويات البشر. أما أدعاها للشفقة فالادعاء بقدرة مجموعة صغيرة على أن تنوب عن مجتمع بحاله في إنتاج الثروة، من خلال موظفين لم يخاطروا برأسمالهم بالأساس، ولا اختُبِرت قدراتهم في مجال البزنس، وبالتالي لا يدفعون ثمن قراراتهم السيئة من ثرواتهم الشخصية.
«وظيفة المعرفة إدراك الكائن طبيعياً، ومن ثم البناء عليه». جملة بسيطة، لكنها تلخص الصراع المتجدد بين الرغبة في التحكم السلطوي وهندسة المجتمع حسب المزاج، مقابل الحرية والتحقق والشجاعة والانفتاح. جملة بسيطة، لكنها غائبة في الخطاب الاقتصادي، والفكري، لصالح أساطير، لم تأتِ للعيل برزقه، ولا أدت إلى توسيع دائرة الرفاهية في المجتمع، ولا حسنت مستوى جودة الحياة. بل ساوت بين البشر في الفقر والضنك واستخدام المنتجات السيئة التصنيع، ذات الثمن الباهظ، والقيمة الرخيصة.