تفاقمت التوترات، المشتعلة بالفعل بين الولايات المتحدة والصين بخصوص تايوان، جراء زيارة «جولة وداع» رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى الجزيرة. ويحذر العديد من المحللين من أن غزو بكين لتايوان قد يحدث عاجلاً، وليس آجلاً ـ التوقع الشائع هنا في غضون 18 شهراً ـ وغالباً ما يستشهدون بالصراع الأوكراني كنموذج، بمعنى أن تلعب الصين هنا دور روسيا وتدفع ما تعتبره غير دولة بقسوة نحو الرضوخ لها.
واعتماداً على سنوات عديدة من التواصل مع الصينيين حول المحيط الهادي عملياً ودبلوماسياً، أعتقد أننا على بُعد سنوات من أي تحرك عسكري محتمل من جانب بكين ضد تايبيه، ومن غير المحتمل أن يحدث ذلك في المستقبل القريب... وثمة أسباب عدة تقف وراء هذا التقدير.
أولاً: من المحتمل أن تدفع الأحداث في أوكرانيا الرئيس الصيني شي جينبينغ للتريث بعض الشيء، وليس أن تشجعه. ولا بد أن يسأل الرئيس الصيني نفسه: هل الجنرالات والأدميرالات لديّ بمستوى رداءة الأداء نفسه، الذي يبدو عليه نظراؤهم الروس؟ ربما كان بوتين قد أكد للرئيس شي، عندما التقيا في الأولمبياد في فبراير (شباط)، أن هذه ستكون حرباً حادة وقصيرة، وأن الروس سيكون لهم كامل السيطرة على أوكرانيا قبل أن يتمكن الغرب من تجميع صفوفهم. بيد أنه على أرض الواقع سارت الأمور بشكل مختلف تماماً بالنسبة للكرملين.
من جهته، يفتقر الجيش الصيني، على غرار الجيش الروسي في نواح كثيرة، حتى إلى مستوى الخبرة القتالية التي كانت لدى الروس في أفغانستان والشيشان وسوريا، وفي الغزوات السابقة لأوكرانيا وجورجيا.
أما السبب الثاني الذي يدعو الصين إلى التردد، حالة عدم اليقين بشأن التايوانيين: هل سينسحبون أم يقاتلون؟ ومع أنه لا يمكن هنا الاعتماد على استطلاعات الرأي بشكل كامل، فإن جميع المؤشرات تشير إلى أن التايوانيين لديهم إحساس قوي بالهوية الوطنية، ومن غير المرجح أن يتلاشى هذا الإحساس عندما تضرب الموجة الأولى من الصواريخ الصينية الجزيرة... (كشفت بكين عضلاتها وقدمت لمحة عن قوتها في التدريبات رداً على زيارة بيلوسي).
علاوة على ذلك، فإن الرئيسة تساي إنغ وين زعيمة فولاذية، وهي في ذلك لا تختلف عن الزعيم الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتقديري الشخصي أن التايوانيين سيقاتلون وببسالة. كما أن جغرافيا الجزيرة ـ بما تضمه من جبال وغابات ـ تعد كابوسا للغزاة، خاصةً الذين يضطرون لشن الحرب عن طريق البحر.
ثالثاً: تراقب بكين اصطفاف الديمقراطيات الغربية في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأقصى خلف فرض عقوبات معوقة ضد روسيا، مما تسبب في تخلف موسكو عن سداد ديونها للمرة الأولى منذ أكثر من قرن. وغادرت جميع الشركات الغربية تقريباً موسكو، ما أدى إلى انهيار الواردات، ويبدو أن القليل منها سيعود في أي وقت قريب. كما أن خط الأنابيب «نوردستريم 2» بين روسيا وألمانيا لن يمر عبر أنابيبه الطويلة خلال المستقبل المنظور سوى صفير الهواء. في الوقت ذاته، يتخذ الأوروبيون خطوات واسعة نحو تحقيق الاستقلال عن موسكو في مجال الطاقة.
بالتأكيد، سيقول الصينيون لأنفسهم إن اقتصادنا أكبر من أن يخضع لعقوبات، وهم على حق في ذلك الأمر إلى حد كبير، لكن هل يمكن للغرب أن يفرض عقوبات حقيقية مؤلمة على قطاعات معينة؟ بالتأكيد. وفي الوقت الذي تباطأ فيه الاقتصاد الصيني بسبب ويلات عمليات الإغلاق جراء جائحة فيروس «كوفيد ـ 19»، فإن هذا الاحتمال يبدو مؤلماً على نحو خاص.
رابعاً: ومثلما يقول الرأي القديم، فإن «كل السياسات محلية». وأمام الرئيس شي وضع سياسي حساس للغاية. وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي أواخر الخريف، يكاد يكون في حكم المؤكد أنه سينال فترة ولاية ثالثة مدتها خمس سنوات مما يعد إنجازاً رائعاً يدفعه إلى مصاف ماو تسي تونغ ودنغ شياو بينغ. وبالتأكيد لا يرغب في التورط في صراع كبير مع الولايات المتحدة. وحتى بعد أن يعزز سيطرته بالكامل، يبدو من غير المحتمل أن يسارع الرئيس الصيني إلى صنع أزمة يمكن أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد العالمي.
وأخيراً، ربما يقدر القادة العسكريون والسياسيون في الصين أنهم ليسوا مستعدين (تماماً) لخوض حرب شاملة مع الولايات المتحدة، خاصة أنه ما تزال هناك قدرات عسكرية يرغبون في دمجها بالكامل في جيش التحرير الشعبي: قوة نووية استراتيجية جديدة، وسفن حربية تعمل بالطاقة النووية (لا سيما حاملات الطائرات)، وصواريخ تفوق سرعة الصوت، وآليات حرب إلكترونية هجومية متطورة، وشبكة أقمار صناعية أفضل بكثير من أجل مهام الاستطلاع والقتال الفعلي في الفضاء.
بالطبع تبدو الحرب بين الولايات المتحدة والصين ممكنة على المدى القريب. في الواقع، شاركت في تأليف رواية قبل عام بعنوان محبط، «2034: رواية من الحرب العالمية التالية». إلا أنني لم أؤلف الكتاب كخيال قائم على تنبؤات، وإنما كقصة تحذيرية. اليوم، ما يزال أمام الولايات المتحدة الوقت الكافي لبناء استراتيجية متماسكة ـ عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً وتكنولوجياً ـ بمقدورها ردع مثل هذا الصراع. الوقت يمر، ولكن من شبه المؤكد أن ساعة الخطر الأقصى تقع على بُعد بضع سنوات قادمة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»