حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

كربلاء درّة السياسة وكنز السياسيين

مراسم إحياء ذكرى عاشوراء تميزت هذه السنة، في لبنان والعراق على الأقل، بتضخم واضح في جانبها السياسي. خُطب الأمين العام لـ«حزب الله» اليومية التي تناولت شؤوناً مختلفة من الهموم المتعلقة بالنفط والغاز والصراعات الداخلية والمواجهة الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى المهرجانات الحاشدة التي نظّمها «الإطار التنسيقي» العراقي في سياق تنافسه مع خصومه في التيار الصدري على شرعية التمثيل الشيعي، أعادت الاعتبار إلى المناسبة كمكون رئيس في الخطاب السياسي في بعض أجزاء المشرق العربي.
ويشكل يوم العاشر من شهر محرم ذروة مأساة أهل البيت النبوي في مقاومتهم حكم السلالتين الأموية والعباسية اللتين يقول الشيعة إنهما اغتصبتا حق أحفاد الرسول الكريم في الولاية والحكم بعيد اغتيال الإمام علي بن أبي طالب سنة أربعين للهجرة (661 ميلادية). ولم تمر حقبة على العالمين العربي والإسلامي إلا وكان الخلاف السنّي - الشيعي في صلب حياتها العامة، السياسية والثقافية والفقهية. وفي قلب الخلاف هذا واقعة الطفّ في كربلاء وخاتمتها البشعة التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي. كذلك، لم يتأخر اكتشاف الفوائد الهائلة لاستغلال قضية كربلاء، من المختار الثقفي صاحب ثورة التوابين، إلى عمار الحكيم وقيس الخزعلي وهادي العامري من «الإطار التنسيقي» العراقي وحليفهم حسن نصر الله من «حزب الله» اللبناني.
هناك اتفاق بين عدد من المتابعين على أن القائمين على مراسم عاشوراء في العام الحالي عكسوا المناخ السياسي الذي تعيشه القوى السياسية والمسلحة الشيعية وتوتر الأوضاع المحيطة بها. تمددت احتفالات لبنان، على سبيل المثال، إلى مناطق لم تكن تعرف هذه الشعائر من قبل وإلى بيئات مذهبية وطائفية مغايرة. وبداهة أن الأمر لم يقتصر على المجالس والمسيرات الحسينية بل وصلت إلى استعراضات شبه عسكرية في غير مناطق الثنائي الشيعي على غرار ما جرى في صيدا. وأثار إحياء المناسبة في مسرح شهير في شارع الحمراء البيروتي الكثير من الكلام عن سيطرة «حزب الله» وما يمثل من أحادية في الرأي والهيمنة الطائفية على ما تبقى من علامات التنوع والاختلاف في لبنان. وإذ انبرى بعض دعاة «الصواب السياسي» إلى الدفاع عن حق الحزب في الاحتفال في أي منطقة من المناطق اللبنانية، نسي هؤلاء أن الحزب ذاته يقمع أي تعبير عن الرأي لا يتوافق مع توجهاته ولو بالقوة في كل ناحية يسيطر عليها، بل في غير مناطق نفوذه المفترضة على ما فعل مع المتظاهرين أثناء «انتفاضة تشرين» 2019.
وهذه مفارقة يتشارك فيها الحزب اللبناني مع حلفائه العراقيين الذين كانوا الأشرس في قتل المشاركين في مظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته في بغداد والمدن العراقية الأخرى وفي تنظيم حملة اغتيالات لناشطين وباحثين معارضين لما تمثله الفصائل الولائية.
ولم يكن من العسير ملاحظة المفارقة بين تقدم كبار الفاسدين في لبنان والعراق صفوف مجالس العزاء الحسينية وهم من يتزعم القوى الممثلة للثنائي الشيعي و«الإطار التنسيقي» في البلدين. ذاك أن المناسبة الحافلة بالإحالات العاطفية والإنسانية لا يمكن أن يتركها هؤلاء من دون أن يعمقوا سيطرتهم وتحكمهم في جمهور يشكل الخوف من المستقبل والاضطهاد الذي عانى منه في الماضي قاسماً مشتركاً كبيراً.
تضاف هنا العوامل الراهنة من مثل الانقسام بين «الإطار» والصدريين في العراق والمنافسة المريرة حول تشكيل حكومة أكثرية أو الدعوة إلى انتخابات استثنائية جديدة قد لا تأتي نتائجها على النحو الذي تريده الفصائل التي بلغ غضبها أن نزل كبيرها نوري المالكي مسلحاً بين حراسه لتثبيت حضوره في المنطقة الخضراء في بغداد.
لبنانياً، يسعى «حزب الله» إلى تكرار تجربة ميشال عون الذي ينتهي عهده بعد أقل من ثلاثة أشهر. وما الحشود والاحتفالات المبالغ فيها في الذكرى الكربلائية الأخيرة غير طريقته في التعبير عن إمساكه بالشارع وبالقدرة على إحباط أي محاولة لانتخاب رئيس من خارج اللائحة القصيرة التي يفضلها الحزب، ناهيك عن ضرورة التذكير بإمكاناته في تجنب الآثار التي يعاني منها اللبنانيون جراء الكارثة الاقتصادية التي يعيشها بلدهم. فالحزب في منأى عن الانهيار المالي وقادر على توفير حد أدنى مقبول من مستوى الحياة لأنصاره على خلاف أكثرية اللبنانيين. وتمنح الميزة هذه «حزب الله» هامش حركة واسعاً في أوساط الطائفة الشيعية التي تجد نفسها مضطرة إلى إظهار الولاء لمسؤولي الحزب.
يعيد بعض المؤرخين تاريخ تسييس ذكرى كربلاء إلى البويهيين الذين أقاموا أول مواكب العزاء ونشروا الأعلام والثياب السوداء في عاصمة الخلافة العباسية بعد أن سيطروا عليها. ومنذ ذلك الحين، لم يفت أي سياسي الاهتمام بهذه الجوهرة السياسية التي تعود بفائدة آنية وسريعة على كل من يتقن تحريك عواطف المؤمنين والطامحين إلى عدالة سماوية رمزها الأسمى الإمام الحسين.