ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

المجلّات

خلال إقامتي في لندن كنت مواظباً على قراءة كثير من المجلات التي كانت ممتازة في إنجلترا، إلى أن أدركت يوماً أن قراءة «الإيكونوميست»، على سبيل المثال، بكل أبوابها، كانت تستغرق مني أسبوعاً كاملاً، وتمنعني من مطالعة الكتب والروايات والأشعار والبحوث التي توجد فيها الأفكار الحقيقية. أما اليوم فأكتفي بقراءة مجلتين أسبوعيتين وشهريتين: ملحق «التايمز» الأدبي لمعرفة ما يُكتب في العالم الواسع، و«آداب حرّة» التي تصدر في المكسيك وإسبانيا، والتي أعتقد أنها أفضل المجلات الأدبية الصادرة باللغة الإسبانية، وأنصح القرّاء بعدم الاستغناء عنها.
يحضرني في الذاكرة المؤرخ والباحث المكسيكي إنريكي كراوس، الذي كان قد تعاون مع أوكتافيو باز في مجلة «فويلتا» عندما كانت مغامرة آداب حرّة في بداياتها. كان يحطّ رحاله في مدريد وجعبته عامرة بالمشروعات، يجول على أصحاب الأعمال محاولاً بيعهم أفكاره، ويعود بخيبات كثيرة. لكنه كان يأبى الاستسلام لليأس، ويصرّ في القول على أنه لا بد أن يكون لإسبانيا وأميركا اللاتينية مجلة واحدة تعبّر عن مشكلات الطرفين ونتاجهما الأدبي، وهواجسهما السياسية. وكان له ما أراد؛ حيث إن «آداب حرّة»، في اعتقادي، هي المجلة الوحيدة التي تستضيف على صفحاتها كتّاباً من إسبانيا وأميركا اللاتينية، وحيث يكتشف القرّاء أن المشكلات التي تعاني منها بلداننا لا تختلف كثيراً بعضها عن بعض، رغم المحيطات التي تفصل بينها؛ لأن ثمّة لغة واحدة تجمعنا، وفيها من الروعة والجمال ما يستدعي أن نحمد السماء، أو الصدفة والتاريخ، عليها، مع كل إشراقة شمس.
أحبّر هذه الأسطر بعد أن تسلّمت نسختي من «آداب حرّة»، بغلاف كبير من أربعة ألوان (أبيض، وأسود، وأصفر، ورمادي) يحمل العنوان التالي «أوكرانيا الباسلة». قرأتها بشغف كبير، هذه المجلة التي يديرها دانييل غاسكون في إسبانيا، وكريستوفر دومينغيز مايكل في المكسيك، والتي تضمّ مقالات وترجمات تعكس واقع الأدب الأوكراني اليوم، وتلقي نظرات على ماضيه، بشكل رائع يتيح للقراء الاطلاع عن كثب على عيّنات من أدب هذا البلد الشهيد الذي يتعرّض لعدوان فلاديمير بوتين.
ورغم التوجّه الليبرالي للمجلة، فهي تفتح صفحاتها دائماً لكتّاب اليمين واليسار حسب درجات الإبداع والفرادة التي تحملها نصوصهم وإنتاجهم، بغض النظر عن مشاربهم العقائدية، كما يفترض بمجلة حرّة مشرّعة على رياح الأصالة والإتقان.
ولا أبالغ إن قلت إن قراءة هذا العدد من «آداب حرّة» أتاحت لي الاطلاع على الأدب الأوكراني أكثر مما أتيح لي خلال الأيام الثلاثة أو الأربعة التي أمضيتها في كييف منذ سنوات؛ حيث قمت بزيارة بعض السياسيين، وعاينت في ساحة الميدان، بصحبة السفير الإسباني، كيف أسقط الأوكرانيون الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش، وتعرّفت على البيت- المتحف؛ حيث عاش الكاتب الكبير باللغة الروسية ميخائيل بولغاكوف، صاحب الرواية الشهيرة «المعلّم ومارغاريتا» الذي كنت أعتقد أنه روسي، واكتشفت هناك أنه كان هو أيضاً من ضحايا النظام الستاليني، وأنه كان أوكرانياً. وقد فتحت تلك الزيارة إلى المتحف شهيتي على قراءة عديد من أعماله المترجمة، مستذكراً أن تلك البلاد المتعددة اللغات كانت مسقط رأس جوزيف كونراد الذي كتب بالإنجليزية، وجوزيف روث الذي كان يكتب بالألمانية.
العلاقة صعبة بين الأدب والسياسة؛ لكن يستحيل الفصل التام بينهما بسبب من تلازمهما في معظم مناحي الحياة، رغم أنه من المستحسن أن يبقى كل منهما على مسافة من الآخر، برغم الروابط الثابتة والوثيقة عادة بينهما، والتي لم يتسنّ لأحد أن يحددها بوضوح حتى الآن.
سارتر اقترب كثيراً في وصفه لتلك العلاقة الصعبة، وكان ذلك من إنجازاته الفكرية؛ لكن في النهاية انهزم الأدب أمام السياسة في أعماله وحياته، وانصرف يروّج بين العمال لكتاب ماو تسي تونغ «قضيّة الشعب» على أبواب مصانع شركة «رينو».
والفظائع التي تخيلها دوستويفسكي في رواياته يحققها اليوم فلاديمير بوتين، وتنبذه بسببها غالبية الأمم. لكن دوستويفسكي، بالمقابل، يحظى بإعجاب العالم أجمع. وهذا ما حصل مع بولغاكوف عندما تصوّر الشيطان يتجوّل من جديد في شوارع موسكو، تنبعث منه رائحة الكبريت، وأيضاً رائحة بوتين الذي لا بد من قراءة بولغاكوف للوقوف على نفسيته المعقدة.
لكن عودة إلى الموضوع الذي كنت في صدده، وشططت عنه، ليس أفضل لفهم ما يحصل هذه الأيام في تلك البلاد من قراءة الأدب الأوكراني الذي يستشرف الحاضر، ويدينه، وأحياناً يمتدحه. وقد أحسنت «آداب حرّة» اختيار عيّنات ممتازة من هذا الأدب، وكشفت لنا -في جملة ما كشفت- أن الشعراء الأوكرانيين يطالعون أعمال البيرواني سيزار فايخو، وأن ثمة مكسيكياً عالمياً يدعى آوريليو آسيايين يترجم من الأوكرانية واليابانية إلى الإسبانية، وهو شاعر وكاتب ومترجم مقتدر.
العلاقة بين «آداب حرة» والسياسة هي التي يفترض أن تكون لكل مجلة أدبية دائماً: أن تقبل كل النصوص التي تستوفي الحد الأدنى من المستوى الأدبي، وأن تدافع عن قناعاتها الذاتية بقوة ومن غير إحراج أو مواربة. أعتقد أن في «قناعاتها الذاتية» بعض المبالغة؛ لأن صفحات المجلة تجمع بين مفكّرين من اليسار واليمين؛ لكن القارئ على بيّنة دائماً من أن المجلة حريصة على الدفاع عن الحرية، في المقام الأول، ثم عن الديمقراطية، أي عن نبذ العنف الذي صار من سمات النشاط السياسي هذه الأيام.
هذا ما عايشته في ليما خلال سنوات المراهقة بفضل المجلات الفرنسية؛ حيث إن الدراهم الضئيلة التي كنت أجنيها من كتابة بعض المقالات في مجلة «سياحة»، وأحيانا «لا كرونيكا» خلال دراستي الجامعية، أتاحت لي الاشتراك في مجلتين فرنسيتين: «الأزمنة الحديثة» التي كان يديرها سارتر، ومجلة «الآداب الجديدة» التي كان يشرف عليها موريس نادو، وكانت تقتصر أكثر على الأدب. كنت أطالع المجلتين من الألف إلى الياء، مغرماً بهذا البلد الذي كان يبدو لي سدرة المنتهى في الذوق الرفيع والثقافة، رغم أني عندما عشت هناك اكتشفت أن تلك الأمور ليست كما كانت تبدو لي، وأني لا يمكن أن أصير كاتباً فرنسياً جيداً في يوم من الأيام، وأني قد أصبح كاتباً أميركياً لاتينياً، أكثر منه بيروانياً، كما سعدت واكتشفت لاحقاً.
تتفرّد «آداب حرّة»، من بين كل المجلات التي أتيح لي الاطلاع عليها، باختصار المشهد الأدبي في أوكرانيا، من خلال النصوص التي اختارتها، والتي لا بد من قراءتها لنعرف أن وراء الفظائع والأهوال التي تنقلها إلينا الأخبار، ثمّة بشراً أحياء، مثلنا، يتعرضون كل يوم للقتل، والاغتصاب، والطرد من بلدهم، بسبب من الجنون الإمبريالي لطاغية مستبد.