علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

افتراء فوري ومجاني على طالب نابه

كنت قد قلت في المقال السابق، إن النشاط الثقافي لمحمد محمد حسين انحصر في إلقاء المحاضرات، وإن هذه المحاضرات كانت – كما كتبه – قليلة. وفي أثناء تدريسه بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ورياسته لقسم الأدب فيها قام بعملين هما استثناءان في نشاطه الثقافي، أحدهما، قد ذكرناه في المقال السابق، وهو مشاركته ببحث في ندوة (أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب) عام 1980، والآخر سلسلة من الأحاديث الإذاعية قرأها بصوته في إذاعة الرياض، وكان عنوانها (أزمة العصر).
في مقدمة كتابه الذي حمل هذا الاسم، المؤرخة بـ13/12/1978، أطلعنا على سببي نشاطه الثقافي الاستثنائي هذا.
يقول فيها: «منذ ربع قرن حين صدر كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) أشار علي جماعة من الأصدقاء أن ألخصه في مختصر يقر به من غير المتخصصين، وكنت مقتنعاً بما أشاروا به. فالكتاب يقع في أكثر من ثمانمائة صفحة، تثقله النصوص الكثيرة والحواشي التي تحيل إلى المراجع وتتقصى دقائق المواضيع المتنوعة التي تناولها الكتاب. وهو في طوله وفي جفاف تناوله لما عالجه من المسائل لا يصبر عليه إلا الباحث المدقق الذي تعود الصبر وحبس النفس وبذل غاية الجهد في الاستقصاء. ومع اقتناعي بضرورة كتابة هذا الملخص المختصر، كانت تصرفني عن إنجازه مشاغل شتى وأسباب متعددة، لعل من أظهرها أن مما يثقل على أي كاتب أن يعيد كتابة ما كتب، لأنه لا يجد في عمله هذا جديداً ينشطه ويحفز هتمه ويشبع تطلعه».
ثم إن إحدى الإذاعات العربية دعتني منذ عام إلى أن أعد لها ثلاثين حديثاً (تدور حول القضايا الأدبية البارزة وموقف الإسلام منها، مدة كل حديث منها في حدود عشر دقائق). فرأيت فيما دعتني إليه فرصة مواتية لتحقيق المشروع القديم، في الحيّز الأمثل الذي يناسب غير المتخصصين من القراء، والذي يلائم طاقات الشباب منهم على وجه الخصوص، ولا يكلفهم ما يشق عليهم.
وقد ساقني القلم في أثناء إعداد هذه الحلقات الثلاثين إلى موضوعات تناولتها من قبل في كتب غير (الاتجاهات الوطنية) مثل (حصوننا مهددة) و(الإسلام والحضارة الغربية) و(الروحية الحديثة). ولم يخل الأمر من إضافات هنا وهناك، مما لابد أن يعنّ للكاتب حيث يعيد عرض بعض أفكاره.
هذه الأحاديث الإذاعية أذاعها عام 1977 وطبعتها بالاسم نفسه، لأول مرة، دار عكاظ للطباعة والنشر بجدة، ثم طبعته مؤسسة الرسالة ببيروت، وهي دار نشر إسلامية، أكثر من طبعة.
في حدود تتبعي لنشاط محمد محمد حسين في مدينة الرياض سواء في الكتابة في الصحف اليومية وفي المجلات الأسبوعية وفي المجلات الشهرية وفي المجلات الفصلية أو حضور المحاضرات والندوات التي تقام في القاعات الرسمية وفي بعض منازل المعنيين بالأدب والفكر والمشاركة فيها، لم أعثر إلا على هذين الأمرين:
- ثلاثة بحوث أكاديمية في مجال اللغة والأدب نشرها بمجلة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كتبها في الأعوام التالية: 1977، 1980، 1981.
أسرته بعد وفاته ضمت إلى هذه البحوث الثلاثة، بحثاً مخطوطاً لم ينشر، يرجع تاريخ إنجازه إلى عام وفاته، عام 1982، عنوانه (أثر الأدب الغربي في أدبنا العربي المعاصر)، وبحثاً آخر، هو (دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بين التأييد والمعارضة) الذي ألقاه في (أسبوع الشيخ محمد من عبد الوهاب)، وطبعته في كتاب عنوانه (مقالات في الأدب واللغة) بمؤسسة الرسالة عام 1983.
- في تحقيق صحافي كتبه الصحافي المصري كمال سعد، ونشره في مجلة (الدوحة) – التي كان يعمل بها – في عدد 1 مايو 1979، تحت عنوان (خفقات في قلب مدينة الرياض)، تحدث في موضوع من موضوعات تحقيقه عن حضوره الندوة الأسبوعية التي يقيمها الأديب عبد العزيز الرفاعي في منزله، وقدم عرضاً لأبرز قضيتين نوقشتا في تلك الأمسية التي تقام مساء كل يوم خميس.
القضية الأولى، كانت عن الشعر النبطي. والشعر النبطي قضية خلافية في السعودية احتدم الجدل فيها منذ أواخر الستينات الميلادية. وللإحاطة بهذه القضية الخلافية أنصح بقراءة كتاب (الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص) لسعد الصويان.
والقضية الأخرى، شبهات حول شخصية جمال الدين الأفغاني وحول دعوته إلى التجديد، طرحها محمد محمد حسين. وهذه الشبهات القليل منها قاله في كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) والكثير منها قاله في إحدى محاضرتيه في الكويت عام 1966، التي طبعهما في كتاب عام 1969، عنوانه (الإسلام والحضارة الغربية).
العرض المحايد لما قاله محمد محمد حسين الذي قدمه كمال سعد في ذلك التحقيق تكشف سطوره الأولى إنه لم يسبق له أن قرأ القضية كاملة عند محمد محمد حسين في كتابه (الإسلام والحضارة الغربية)، فهو يقول فيها: «وفي هذه الندوة – أيضاً – فجّر الدكتور محمد حسين رئيس قسم الأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود قضية ذات أهمية بالغة للعامل العربي كله».
ويكشف أيضاً عن ذلك في خاتمة عرضه المحايد لما قاله محمد محمد حسين: «وإنني إذ أنشر هذا الكلام على لسان الدكتور محمد حسين الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود، نظراً لأهمية ما جاء فيه، فإنما أطالب المهتمين بالبحث في تاريخ هذا المفكر (يقصد الأفغاني) أن يناقشوا هذا الرأي وأن يصلوا إلى نتيجة حوله».
ما لم أبحث فيه: هل محمد محمد حسين من المنتظمين في الحضور إلى ندوة الرفاعي أم أنه كان يحضرها بتقطع أم أنه حضر إليها في ذلك المساء الذي كان فيه كمال سعد ضيفاً زائراً فيها، ليتلو بعض ما في جعبته من آراء هي مخالفة لكل ما قيل عن جمال الدين الأفغاني في الثقافة العربية الحديثة، بشقها الديني وشقها العلماني؟
ويفيد هنا بأن نذكّر أن عام 1979، هو العام الذي تحول فيه كتيبه (الإسلام والحضارة الغربية) إلى كتاب.
كتبت أكثر من مقال في النقد الخارجي لادعاء أنور الجندي إجراء الحوار الأخير مع محمد محمد حسين، ولادعائه في هذا الحوار المزعوم أنه كان على معرفة شخصية به. وأذكّر أنه في منتصف عام 1952، اخترع اسماً أميركياً يدعى روبير جاكسون، وجعله يكتب سلسلة من المقالات عنوانها (حسن البنا: الرجل القرآني)، وهي القضية التي كتبت عنها أكثر من مقال.
وفي سن متأخرة من عمره قال في رواية عن نفسه رددها بصيغ متعددة. هذا الرواية صدّقها الصحافي محمد الباز، رغم أنه ليس من الإسلاميين بل هو من نقادهم الليبراليين.
يقول في كتابه (صحافة الإثارة: السياسة والدين والجنس في الصحف المصرية): «في عام 1940 قرأ الجندي كتاب (وجهة الإسلام) لمجموعة من المستشرقين، لفت نظره في الكتاب كما يقول حجم المؤامرة على الإسلام، ووضع أقدامه على الطريق الطويل لمعركة المسلمين في ميدان البقاء».
لمعرفة أقدم مصدر قال فيه أنور الجندي بهذه الرواية سأستعين بكتاب حلمي القاعود (الزاهد: في صحبة الأستاذ أنور الجندي).
ينقل حلمي القاعود في هذا الكتاب عن أنور الجندي، قوله: «ولقد كنت في الحقيقة قد اكتشفت نفسي منذ الثلاثينات عندما رفع الغطاء عن خطة التغريب التي يجري العمل بها في البلاد الإسلامية بترجمة كتاب (وجهة الإسلام) للمستشرق جيب، والهدف منه دراسة ما وصل إليه تغريب البلاد الإسلامية والخطط التي سيتم العمل بها حتى يتم التغريب. وواضح أن هذه الخطة كان قد رسمها لويس التاسع بعد هزيمته واعتقاله في المنصورة، فقد دعا إلى ما سماه (حرب الكلمة) بعد هزيمة حرب السيف في الحروب الصليبية...»!.
أحال حلمي القاعود في الاقتباس الذي أوردت جزءاً منه إلى الجزء الثاني من كتاب (علماء ومفكرون عرفتهم) لمحمد المجذوب.
هذا الكتاب من كتب التراجم. وبالعودة إلى ترجمة أنور الجندي فيه عرفت أن ترجمة محمد المجذوب له أنجزها على مرحلتين:
الأولى كانت في قطر حيث التقى به هناك في مؤتمر السيرة والسنة عام 1400هـ. والأخرى كانت في القاهرة ولم يذكر تاريخ لقائه به. في هذا اللقاء قدّم إليه «صورة من ترجمته ليرى إذا كان لديه ما يزيده فيها». وقول أنور الجندي السابق عن أثر كتاب (وجهة الإسلام) فيه هو من ضمن زياداته القاهرية.
يعلق حلمي القاعود على كلام أستاذه بالقول: «ويلاحظ أن ذلك الكتاب الذي يشير إليه أنور الجندي، ويكرر الإشارة إليه أكثر من مرة في أحاديثه الصحفية، أو في الأوراق التي خط فيها طرفاً من حياته: ......».
بمنطق العالم ببواطن المخططات الصليبية الغربية التي كان على رأس واضعيها ملك فرنسا لويس التاسع، وبمنطق العليم بخفايا مؤامرات الاستشراق، وضع حلمي القاعود حاشية لما سماه في المتن «المؤامرة/ الجريمة» كتب فيها: «هذه الدراسة أطلق عليها بعد ترجمتها إلى العربية وجهة الإسلام». وهو يعني بهذا أنه أطلق عليها هذا الاسم بعد ترجمتها إلى العربية للتغطية على عنوانها في لغتها الأصلية، الذي يشي بأنها خطّة تآمرية، وخطّة إجرامية!
حلمي القاعود وعشيرته من الإسلاميين، إضافة إلى الليبرالي محمد الباز، يذهبون إلى أن عام 1940، مثل لأنور الجندي – بحسب روايته هو عن نفسه – منعطفاً في حياته، حين قرأ في ذلك العام كتاب (وجهة الإسلام)، فانكشفت له خطة التغريب المتآمرة على الإسلام والمسلمين.
أنور الجندي في كتبه عن قضايا في الأدب العربي المعاصر، أتى في أكثر من كتاب له على ذكر كتاب (وجهة الإسلام) حين تحدث عن محمد حسين هيكل. فهو ينسب للكتاب أثراً في تحوله من الفكر الغربي إلى الفكر الإسلامي.
ففي كتاب من هذه الكتب، وهو كتاب (صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر)، قال: «ولكن الذي لم يشر إليه هيكل هو قراءته كتاب (وجهة الإسلام) الذي ترجمه من بعد الدكتور عبد الهادي أبو ريدة، وقد لخصه في السياسة الأسبوعية (وهو ضمن كتابه الشرق الجديد الذي أصدره نجله أحمد هيكل) فقد هزته ما في هذا الكتاب من فقرات فهم منها ما يريده الغرب من حركة تغريب الشرق».
في هذا الكتاب الذي عرض أنور الجندي بعض الأسباب التي قيلت إنها وراء كتابة هيكل لكتابه (حياة محمد)، لا صحة لاجتهاده الخاص بأن لكتاب (وجهة الإسلام) أثراً في تحوله الفكري.
فبحسب كتابه (الشرق الجديد) الذي جمع مقالاته ابنه أحمد، فإنه كتب مقالته (وجهة الإسلام) في (ملحق السياسة) رقم 2131 في 14 أكتوبر سنة 1933. أي أن هذه المقالة التي عرض فيها بعض ما جاء في كتاب (وجهة الإسلام) مع مناقشة بعض ما عرضه، كتبها بعد تحوله الفكري.
بعد صدور كتاب محمد حسين هيكل (حياة محمد) عام 1935 الذي انتقد فيه كتابات المستشرقين عن الإسلام، حصلت مساجلة بين طه حسين وبينه حول هذا الموضوع. وكان مما جاء في رد هيكل على زميله وصديقه طه حسين قوله: (وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب (وجهة الإسلام) الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة، إنما هو كتاب سياسة مداه بحث ما وصلت إليه أوروبا مما يسميه الأستاذ جيب (تغريب الشرق)، وما يرجى لهذا التغريب في المستقبل من نجاح. وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد، فهم به يخدمون أوطانهم، ويخدمون العلم، ويخدمون الحقيقة، من ناحية سياسة بلادهم، ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون أن تظل المدنية الحاكمة في العالم». كتاب أنور الجندي (المعارك الأدبية)، ص 312، 313.
هذا الكتاب (Whither Islam؟) صدر في لندن عام 1932. أشرف على تحريره وأسهم في دراسة من دراساته هاملتون جيب. أما الدراسات الأخرى المضمومة فيه، فقد كتبها كل من: ماسينيون وج. كامبفماير وك. ك. برج واللفتانت كولونل فراز.
هذا الكتاب انكب على ترجمته إلى العربية طالب جامعي يدرس في قسم الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية. هذا الطالب الجامعي سيغدو علماً في حقل الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام والتصوف. إنه محمد عبد الهادي أبو ريدة.
ترجم هذا الكتاب تحت عنوان (وجهة الإسلام: نظرة في الحركات الحديثة في العالم الإسلامي). ففي عام 1933 كاتب هذا الطالب الجامعي، محمد عبد الهادي أبو ريدة، جب يستأذنه في ترجمة الكتاب ونشره. أجابه جب برسالة كتبها باللغة العربية، أخبره فيها، أنه حال تلقيه خطابه بسرور زائد عرض على صاحب المطبعة السيد غولانس طلبه، لأنه هو الذي له حق نشر الكتاب، فاستقبل مشروعه بالرضا والاستحسان.
في هذا الجواب يجدر أن أذكر، أن جيب ترجم عنوان الكتاب إلى اللغة العربية بـ(مسير الإسلام).
جب لم يكتف بالحصول له على إذن من ناشر الكتاب، بل – كما أخبرنا المترجم – راجع الكثير من الكتاب على الأصل الإنجليزي، وأوضح له كثيراً مما في الكتاب، وكتب مقدمة لنسخته المترجمة إلى اللغة العربية.
المترجم محمد عبد الهادي أبو ريده طبع ترجمته في عام حصوله على ليسانس الفلسفة، عام 1934.
سردت قصة ترجمة كتاب (وجهة الإسلام) نقلاً عن صاحبها الطالب الجامعي النابه، لأوضح قدر جناية حلمي القاعود وتجنبه عليه في حاشية متعالمة، ليس لها أصل ولا فصل، سوى الافتراء الفوري والمجاني على خطى أستاذه أنور الجندي الذي افترى قبله على ترجمة الكتاب بأنها ولدت من رحم مؤامرة غربية! وللحديث بقية.