أحمد محمود عجاج
TT

قمة جدة: تصويب لبوصلة العلاقات في عالم مضطرب

أخيراً غيَّر الرئيس بايدن مواقفه وزار المملكة التي وعد بتحويلها دولة منبوذة، واجتمع بقادتها وقادة دول مجلس التعاون الخليجي والعراق ومصر والأردن في قمة جدة. هذه القمة كان وهجها الإعلاني أقوى من مضمونها السياسي؛ لأنها أثبتت عملياً أن منطقة الشرق الأوسط، في ضوء التنافس مع الصين، وأزمة أوكرانيا، لا تزال حيوية لأمن أميركا والعالم، وأثبتت أيضاً أن شطب المملكة أو تهميشها ليس ممكناً، وأن اجتماع العرب يقوي موقفهم، وأن اهتماماتهم ليست بالضرورة أن تكون متطابقة مع اهتمامات الغرب، ولا مع إيران أو إسرائيل. الأبرز في هذه القمة كان موضوعين، ورغم أهميتهما، فإن المجتمعين، لم يتوصلوا لتصور حول كيفية معالجتهما، وتحويلهما مصدر استقرار وازدهار، وهما: الأمن والقضية الفلسطينية.
الأمن يمثله مشروع إيران النووي وتمددها في المنطقة على حساب السيادة، وعلى حساب الاستقرار، ويبدو أن الإدارة الأميركية لا تزال تعالج هذه المسألة وفق رؤية النفس الدبلوماسي الطويل، مقتنعة بأن إيران سترضخ، وتسلم أجهزة طردها النووي، وتقبل بالرؤى الأميركية التي تسميها إيران إملاءات مرفوضة. قال بايدن صراحة في إسرائيل «الدبلوماسية هي الطريقة الفضلى» وإنه مستعد للانتظار؛ هذه القناعة بالذات هي التي أفشلت موضوع الأمن في القمة؛ لأن المجتمعين مؤمنون بأن الحل السلمي مع إيران غير ممكن، ولأنهم مؤمنون بذلك لم يأخذوا الضمانات الأميركية على محمل الجد؛ لقناعتهم بأن هذه الرؤية ستؤدي إلى إطالة وتفجير الأزمات الأمنية، وستجعل إيران دولة نووية، لأن التجربة أثبتت أن كل رئيس أميركي كان يتعهد بأن إيران لن تصبح نووية ما دام هو رئيس للبلاد، وتنتهي مدته، وإيران تتقدم بتطوير برامجها النووية، وترفع نسبة تخصيب اليورانيوم حتى تجاوزت الآن الستين في المائة؛ مما يعني تقنياً أنها قادرة على حيازة السلاح النووي. حتى الرئيس الأميركي ترمب رغم تهديداته، والعقوبات الصارمة التي فرضها، ورغم اغتياله قاسم سليماني، وانسحابه من الاتفاق النووي، لم يتمكن من إقناع إيران بتغيير مسارها؛ لهذا فإن إصرار بايدن على الدبلوماسية الصبورة يشي بحقيقة أدركها المجتمعون، وهي أن أميركا لم تعد قادرة على خوض عمليات عسكرية كبرى في المنطقة، ما دام أن هذه العمليات لا يُحتِّمها منطق الأمن القومي، وترى أن أهل المنطقة أكثر ملاءمة ليقوموا بهذا الدور الحيوي لأمنهم ومستقبلهم. وكلمة أهل المنطقة بالمنطق الأميركي تشمل بالطبع إسرائيل التي هي الأكثر حساسية من السلاح النووي، بينما العرب أكثر حساسية من السلاح الميليشياوي؛ ولهذا لم تسفر القمة عن رؤية فاعلة للسلاح النووي، ولا للتمدد الميليشياوي. فالمملكة لم تقبل الاندماج في الرؤية الأميركية للمنطقة، وأصرت على أن حل المشاكل يكون ضمن صفقة كبرى تأخذ في الاعتبار مصالح المجتمعين وهواجسهم، وبالتحديد القضية الفلسطينية التي ستبقى عقبة في وجه أي انفتاح على إسرائيل؛ المملكة أكدت صراحة أن المبادرة العربية (السعودية) لا تزال هي العرض الأكثر سخاءً لكي تصبح إسرائيل مقبولة في المنطقة.
العرض الأميركي كما تبدى كان أقل من المتوقع لأنه لم يقدم حلاً أمنياً مقبولاً، ولا قَبِلَ بحل للقضية الفلسطينية متوافق عليه في القانون الدولي، وقرارات الجامعة العربية، وحتى قرارات الإدارة الأميركية، بل أصر أنه ليس من الملائم الآن في الوقت المنظور العمل على حل الدولتين، ورأى أن التركيز على القضايا الاقتصادية للفلسطينيين هو الأفضل؛ بهذا الطرح يكون أرضى بايدن إسرائيل باستبعاد ورقة القضية الفلسطينية، وكذلك أرضاها بالتأكيد في إعلان القدس على أن أميركا ستضع كل ما لديها من عناصر القوة من أجل حماية أمن إسرائيل ومنع إيران من حيازة السلاح النووي، وفي الوقت ذاته ضمن لحزبه الديمقراطي تأييداً أوسع من قبل أعضاء الكونغرس وداخل الساحة الأميركية. لكنه بالمقابل لم يعطِ العرب شيئاً ملموساً؛ لا هو أعطى تعهداً قاطعاً بخصوص الميليشيات الإيرانية الشيعية ولا بخصوص قضية فلسطين، ولا قدم حلاً معقولاً لحل السلاح النووي من أجل منع انتشاره في المنطقة؛ ولعل هذه المقايضة غير المتكافئة هي التي دفعت مسؤولين سعوديين للجهر علانية بأنهم لم يجروا أي محادثات في القمة حول حلف «ناتو عربي»، ولا أعطوا تعهدات بالتطبيع؛ وهذا رد دبلوماسي لبق على رفض العرض الأميركي، والتذكير بأن أي حل يجب أن يكون أكثر عدالة للفلسطينيين، وأكثر عملانية للسلاح النووي، والتوسع الميليشياوي في أراضي العرب.
رفضت كذلك إسرائيل من جهتها رؤية بايدن إزاء الحل بالتفاوض الدبلوماسي مع إيران، وقال رئيس وزراء إسرائيل، إن إيران لا تفهم إلا لغة القوة، وإن الطريقة الوحيدة لإيقافها أن يضع الأميركيون «تهديداً حقيقياً باستخدام القوة على طاولة التفاوض»، منبهاً الدول العظمى بأن عليها أن «تحترم كلمتها عندما تهدد»، وإلا فإنها ستفقد مصداقيتها. ولعل التشديد الإسرائيلي على السلاح النووي يعكس مخاوف حقيقية من احتمال تفكير دول عربية مثل المملكة وغير عربية مثل تركيا إلى حيازة هذا السلاح في حال امتلكته إيران؛ لأنه لا يمكن لدولة في المنطقة أن تعرّض أمنها للخطر من خلال السماح للآخرين بالتفوق عليها عسكرياً، تماماً كما حصل في القارة الهندية عندما حازت باكستان القنبلة رداً على الهند. هذا الانتشار النووي في حال حدوثه سيكون كارثة على إسرائيل وعلى العرب وعلى مصالح أميركا؛ لذا فإن الحل لا يتطلب عقلاً مبدعاً، بل إرادة أميركية حقيقية تنهي هذا المسار النووي المرعب، والعنجهية الميليشياوية الإيرانية في المنطقة.
قمة جدة حققت للمملكة ريادة في العالم العربي، وأعادتها كقوة فاعلة ومطلوبة على الساحة الدولية، وحملت أميركا على إعادة النظر في مواقفها، وأشعرت إسرائيل بأن تجاهل الحق الفلسطيني لن يؤدي إلى استقرارها ولا إلى اندماجها في المنطقة.