جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

صيف بريطاني ساخن جداً

صيفٌ بريطاني استثنائي هذا العام، شديد السخونة طقسياً وسياسياً، وطويل. شدة حرارة الطقس، خلال هذه الأيام، غير مسبوقة، وتزامنتْ مع شدة سخونة الساحة السياسية، بسبب ارتفاع درجة حرارة حُمّى انتخابات معركة الرئاسة في حزب المحافظين. المعركة الحالية تدور بين خمسة متنافسين ثلاث نساء ورجلين. اثنان منهم من أصول آسيوية وأفريقية. الفائز منهم سيكون رابع زعيم محافظ يُنتخبُ في ست سنوات. وهي المرّة الأولى، منذ قرابة 300 عام، التي يحتمل أن ينتخب فيها المحافظون زعيماً للحزب من الأقلية.
الحملاتُ الانتخابية للمتنافسين، والمناظرات التلفزية بينهم التي أجريت، إلى حد الآن، كشفت عن حقيقتين مهمتين؛ الأولى: أن «بريكست» باقٍ ويتوطد. وأبانتْ، بما لا يدع مجالاً لشك، وهَمَ الاعتقاد السائد لدى عديدين، بأن خروج السيد بوريس جونسون من 10 داونينغ ستريت يعني نهاية «بريكست».
الحقيقة الثانية: أن الشعبوية في بريطانيا باقية وتتمدد. وأن خروج زعيم شعبوي من الحكم لا يعني سقوط الشعبوية. لذلك لم تعد هناك مصداقية لأي سؤال يتعلق بوجهة بريطانيا بعد خروج السيد جونسون. الخلاف ليس حول الوجهة التي سيقود البلاد نحوها الزعيم القادم، بل في الوسائل التي تساعد على الوصول إليها. والمتنافسون على الزعامة يتزاحمون على أي منهم أحقُّ من غيره في وضع عربة قطاره على قضبان سكك حديدية، وضعتها السيدة ثاتشر، في الثمانينات من القرن الماضي، لينال أصوات الناخبين المحافظين.
الزعيمُ العمالي كير ستارمر وصف الحملات الانتخابية على زعامة حزب المحافظين بأنها «سيركٌ طائر». وهو وصف، رغم ما يتحلى به من سخرية شديدة، لا يجانب الحقيقة كثيراً. الخلاف بين المتنافسين تمحور حول الموقف من السياسة الضرائبية. أربعة منهم اصطفوا على ضفة تخفيضها، واختلفوا في الكيفية، وأصر واحد (وزير الخزانة السابق) على العكس. صحيفة «التايمز» قالت معلقة: «إن حدّة الخلاف حول الضرائب (بين المتنافسين) يمثل أكثر الخلافات آيديولوجية التي شهدها الحزب لمدة عقود حول السياسة المالية، وتؤسس رؤى مختلفة لبريطانيا»، وهذا بدوره أفضى إلى أن قضايا مهمة مثل غلاء أسعار الطاقة والوقود والسلع الغذائية، وبطء النمو الاقتصادي، لم تحظ منهم بما تستحق من اهتمام.
والذين منّا يتابعون الساحة السياسية البريطانية عن قرب، أو حتى من مسافة معقولة، لن تفوتهم ملاحظة أن النواب المحافظين من الأقليات الإثنية والنساء في حزب المحافظين قد ارتفع عددهم بشكل ملحوظ، وأضحوا قوة لا يستهان بها. وعلى ما أذكر، فإن ذلك العدد كان في عام 2005، ولا يتجاوز نائبين من الأقليات و17 امرأة فقط. وأعتقد أن الفضل في فتح الأبواب أمام المرأة وأبناء الأقليات يعود الفضل فيه إلى زعيم الحزب الأسبق ديفيد كاميرون، منذ انتخابه زعيماً في عام 2005. وخلال السنوات تلك، عمل كاميرون على تغيير سياسة اختيار المرشحين للبرلمان في الحزب، بفتح الأبواب أمام المرأة والأقليات الإثنية، واختيارهم ليكونوا مرشحين عن الحزب، بوضعهم مرشحين في دوائر انتخابية بمقاعد مضمونة، موالية للمحافظين تاريخياً. أضف إلى ذلك الدور الذي لعبه الزعيم السابق بوريس جونسون؛ إذ لأول مرّة في تاريخ الديمقراطية البريطانية الحديثة يشهد العالم حكومة بريطانية مختلطة، حظت فيها المرأة والأقليات بنسبة عالية من التمثيل في المناصب العليا والدنيا. هذا التحول اللافت للاهتمام على مستوى القيادة والكوادر في التعامل مع الأقليات قد يصعب تفسيره، وبالذات حين نأخذ في الاعتبار أن كليهما (القيادة والكوادر) تحولا من الوسط إلى اليمين في السنوات الأخيرة، وأن الكوادر، الآن، أكثر يمينية من القيادة، وأكثر شعبوية، مقارنة بما كانت عليه عام 2005، حين انتخبت مرشحاً من الوسط وهو ديفيد كاميرون زعيماً بدلاً عن مرشح يميني معادٍ للاتحاد الأوروبي وهو ديفيد ديفيز.
الغريب أن حزب العمال، بتاريخه اليساري، وباتساع رقعة أنصاره بين الأقليات، لم يجرؤ، حتى الآن، على انتخاب امرأة لزعامة الحزب، ولم يبادر بتقديم ولو مرشح واحد من الأقليات العرقية لخوض انتخابات الزعامة. وقد لا يتحقق ذلك في السنوات القريبة، وأن المحافظين البراغماتيين هم من كسر التابو الجندري أولاً عام 1975 بانتخابهم امرأة زعيماً للحزب، وها هم مرة أخرى يكسرون التابو العرقي، ويدفعون بمرشحين، وليس بمرشح واحد من الأقليات، لزعامة الحزب.