إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

أمينة تغزل بالكاميرا

فازت شابة مصرية بالجائزة الأولى في مسابقة «مدام فيغارو» الفرنسية للتصوير. تنافست مع مصورات قديرات من دول عديدة... تداول أعضاء لجنة التحكيم واختاروها بالإجماع. تدحرجت الجائزة واستقرت عند أمينة قدوس. إن صورها معروضة حالياً في مدينة آرل، على ضفاف المتوسط، بمناسبة الملتقى السنوي للصورة. وهو تجمع عالمي لمصورات ومصورين يعرضون فنهم، الذي لا أعرف مرتبته في صنوف الإبداع. أراه يراوح ما بين الرسم والفنون البصرية التي تحتل المرتبة الثالثة، وبين السينما، الفن السابع.
وآرل، هذه الأيام، هي عاصمة الفوتوغراف بامتياز. ولعل غالبية أهلها «الآرليزيين» تسمع للمرة الأولى باسم المحلة الكبرى في مصر. من تلك المدينة جاءتهم أمينة قدوس بمشروعها الفني «الذهب الأبيض». وحتى من لم يسمع باسم المحلة فإنه يعرف شهرة القطن المصري طويل التيلة، علامة النعومة والنقاء. كان يُزرع على ضفاف النيل وامتدت زراعته اليوم إلى أميركا والصين والهند وإسرائيل. وليس في نيتي أن أقيم هنا حائط مبكى.
أمينة بنت المحلة. كتبت في دليل معرضها أن تلك المدينة في دلتا النيل هي بيتها ومنبت هويتها. «تفتحت عيناي وأنا أرى منزل جدّي ينبض بالنور والذكريات». تمتد علاقة عائلتها بالقطن إلى ثلاثة أجيال. جدّها الأكبر كان تاجراً للحرير والصوف ومن أوائل من ساهموا في تطوير تجارة الأقمشة وتصنيعها. يسمونها المانيفاتورة. تحوير محلي للمفردة الإفرنجية «مانيفاكتور». وفي أواخر الستينات امتلك جدها مصنعه الخاص للنسيج. ثم التحق به أبوها. كبرت العائلة مع زهرات القطن. وإذا كان المثل الشعبي يقول إن الشاطرة تغزل برجل حمار، فإن الحفيدة التي أحبت التصوير راحت تغزل بالكاميرا.
بيت الجد كان مختبرها الأول. التقطت صوراً لكل زواياه. الصورة هي أم الذكريات. اقتربت البنت بالكاميرا من نقوش الستائر وخشب الأرائك وتطريز مفارش السفرة. سحبت الكتب من أرففها وقلّبت أوراق العائلة وتخيلت أن جدها ترك لها رسالة مطوية في ملفّ ما. فهمت أنه يوصيها بتوثيق ما ستمحوه السنين. ليس بالنقل المسطّح للمشهد، بل بالتقاط جماليات الشعاع المتسلل من النافذة، وهو يقع على الأشياء الخرساء. تلك هي اللعبة الساحرة للضوء والظل التي هام بها مصورو الأبيض والأسود.
تعترف أمينة بأنها تبحث عما مضى. ماذا يكون الفوتوغراف سوى تثبيت الزائل؟ و«النسيج الحي»، كما تسميه هو بحث مستمر عن هويتها الشخصية والوطنية. سافرت إلى أميركا ودرست في بوسطن ورأت صورتها منعكسة في نبتة القطن. بذرة استخرجت من أرضها وزهرة بيضاء تتحمل التغيرات الداخلية والخارجية. تحاول التكيف مع العالم ونسج وجودها فيه. نقرأ في موقعها أنها تسعى، من خلال القطن، إلى استجواب ما كان يمثل رمزاً للهوية المصرية ذات يوم. تتتبع منشأه وتطوره واندثاره ومحاولات إحيائه. خيوط تنسج تاريخ أمة. ما الذي تبقى وكيف يمكن استرجاعه؟ كانت صورها للكتابات على الجدران، خلال الثورة، امتداداً لذلك الهمّ.
نتأمل اللقطة التي تقدمت بها أمينة قدوس للمسابقة الفرنسية. اسمها «لو سقطت شجرة في غابة». واحدة من سلسلة صور في مشروع فني جميل عن ذهب مصر الأبيض. كأن زهرة القطن تتآمر مع صاحبة الكاميرا لتنفيذ قصائد مرئية. لقطات شاعرية لمصورة مشحونة بحنين إلى ماضٍ سمعت عنه ولم تلحق به. ومن يتصفح موقعها الإلكتروني يقع على مجموعة صور حميمة عن والدتها، سيدة تشبه أمهات البيوت، تفتح الجريدة أمامها بينما يعرض التلفزيون لقطة مقربة لعماد حمدي. تكاد الصورة تنطق بصوته يقول: «يا نينة». هل فكّرت أمينة بذلك أم هي خيالاتي؟