الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

ملفات المنطقة مفتوحة ولبنان مهمَل

لا مبالغة في هذا العنوان. أسبوع حافل بالاجتماعات في المنطقة على أعلى المستويات بمناسبة الجولة التي يقوم بها الرئيس جو بايدن. كل الملفات مفتوحة للنقاش. العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول الأساسية في المنطقة. القضية الفلسطينية ومستقبل حل الدولتين ووضع القدس. أسعار الطاقة والسعي الأميركي إلى الحصول على موقف مشترك مع الحلفاء حيال الحرب الروسية في أوكرانيا وما تخلفه من ذيول على مستقبل العلاقات الدولية وعلى اقتصادات العالم...
ولبنان، في خضم هذه النقاشات، مهمَل وغائب تماماً. لا أحد يفكر في البحث عن موقعه على الخريطة أو بالاطمئنان إذا كان لا يزال هناك، فيما المسؤولون فيه الذين يتلهون بحماية مصالحهم ورعاية شؤونهم الصغيرة يعتقدون أن بلدهم يشكل هماً دائماً للعالم. لا نقاش على المحطات وفي أعمدة الصحف إلا حول مدى الاهتمام الدولي بأوضاعهم وكيف تتأثر بمختلف الأحداث، من مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران، إلى الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي، وصولاً إلى تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا... كلها لها تأثير على فرص تشكيل الحكومة اللبنانية، وعلى حظوظ السيد جبران باسيل في التقدم باتجاه وراثة ميشال عون في الرئاسة، علاوة على أسعار الخبز والساعات (أو الدقائق) التي يتاح فيها للمواطنين الحصول على نعمة الكهرباء في بلد الإشعاع والنور!
يحتاج قادة لبنان إلى بعض التواضع والخروج من الوهم الذي يعيشون فيه بأن بلدهم هو محور الكون. فقليلون في هذا الكون يعبأون بمصير لبنان، وبما يحل بأهله من كوارث معيشية. والسبب ليس انعدام ضمير العالم أو تجاهله المقصود لمصير الشعب اللبناني، بل لأن القناعة صارت كاملة بين أصحاب القرار، سواء في منطقتنا أو حول العالم، بأن الانهيارات الاقتصادية والمعيشية والأزمات السياسية التي يتعرض لها لبنان، هي من صنع المسؤولين فيه، بشراكة شبه كاملة أو تواطؤ مصلحي بينهم وبين الأكثرية الساحقة من مواطنيهم.
رغم كل المآسي التي حصلت في لبنان، ورغم دعوات مسؤولين حول العالم لقادة هذا البلد: ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم، لا همّ لدى هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالقادة والمسؤولين سوى حماية مصالحهم، وهي دائماً على حساب المصلحة العامة.
والأمثلة كثيرة؛ سواء في تعطيل التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت لحماية زعامات حزبية، أو الفشل في حل الأزمة النقدية المستمرة منذ ثلاث سنوات والتي تتفاقم يوماً بعد يوم، وتتمثل في الانهيار المريع لقيمة العملة واحتجاز أموال المودعين في المصارف اللبنانية. وفوق ذلك هناك العجز عن مواجهة الاستحقاقات والمواعيد الدستورية، سواء تعلق الأمر بتشكيل الحكومات أو بانتخاب رئيس للجمهورية، إذ تحتاج كل محطة لمسلسل من المشاورات وترتيب الصفقات يستغرق شهوراً وأحياناً سنوات، فيما تتعطل مؤسسات الدولة، ويصبح الفراغ عنوان الإدارة العامة.
آخر الروايات التي تقترب فصولها من القصص السوريالية، تتعلق بمساعي تشكيل الحكومة الجديدة، وما عرضه الرئيس نجيب ميقاتي عن محاولته ترتيب اجتماع مع رئيس الجمهورية لبحث إصدار تشكيلة حكومية، في ظل إجماع على الحاجة إلى الإسراع في صدورها لمتابعة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومواجهة القرارات الداخلية الصعبة التي لا تستطيع حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال أن تتخذها.
قصة أغرب من الخيال، يصعب تصور حصولها في أي بلد بين رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة. يزيد في الغرابة ما في رواية ميقاتي من تفاصيل عن انعدام المسؤولية في دوائر القصر الجمهوري، والإساءة المتعمدة لموقع رئاسة الحكومة، من خلال عدم الرد على طلب ميقاتي موعداً للقاء عون، رغم مضي عشرة أيام على هذا الطلب، إضافة إلى تشكيك ميقاتي في قدرة رئيس الجمهورية على اتخاذ قرارات لا ترضي «المحيطين به» الذين يسعون وراء الحصول على حصص في الحكومة. وكلها تفاصيل تدفع إلى التساؤل عن مدى قدرة هذين الرجلين على التعامل المشترك والتوافق على حكومة جديدة بعد هذا التصعيد الناري وتبادل الاتهامات والحملات عبر وسائل الإعلام.
وكل ذلك في ظل توقعات تتزايد يوماً بعد يوم أن هذه الحكومة الأخيرة في عهد عون، سوف تكون مكلَّفة ملء الفراغ الرئاسي بعد نهاية هذا العهد في آخر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، إذ يسود شعور عام بأن إجراء انتخابات رئاسية في موعدها الدستوري بات أشبه بالحلم في لبنان، بناءً على التجارب السابقة التي رافقت نهاية عهدي إميل لحود وميشال سليمان، إذ استمر الفراغ الرئاسي في الحالة الأولى سبعة أشهر وفي الحالة الثانية سنتين ونصف السنة، قبل أن يرضخ مجلس النواب لمشيئة «حزب الله» ويوافق على انتخاب ميشال عون.
وليس مستغرباً ما يواجهه ميقاتي الآن في مسعى تشكيل الحكومة. فخلال عهد عون واجه الرئيسان سعد الحريري وحسان دياب العقبات نفسها، علاوة على ما واجهه ميقاتي لتشكيل حكومته الحالية. والسبب كان عجز عون عن لعب دوره كرئيس للجمهورية، فبقي يتصرف كما لو أنه رئيس للتيار الوطني الحر، وهو ما يفعله الآن، إذ يطالب بحصص للتيار تضمن استمرار نفوذه إذا تولت هذه الحكومة ملء الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية. كما يطالب بإبقاء وزارة الطاقة بيد التيار، رغم أن وزراءه أشرفوا على مدى سنوات على مسلسل الهدر المالي فيها والفشل في إدارتها، ما انتهى إلى تأمين العتمة الكاملة في بيوت اللبنانيين.