د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الغرق في مسبح الرئيس

انتشرت مقاطع وصور الشعب السيلاني وهم داخل القصر الرئاسي السريلانكي، يسبحون في مسبح الرئيس، مستلقين على سريره، ويعدون الشاي في مطبخه. وفيما تبدو هذه المناظر فكاهية مثيرة للضحك، إلا أنها تعبر عن مأساة شعب لا تزال في بدايتها، لدولة كانت تعد من أفضل الدول في جنوب آسيا من ناحية مستوى جودة العيش. وما يحدث في سيرلانكا اليوم هو مزيج من سوء الحظ، وتخبط الحكومة. فكيف وصلت الجزيرة التي لا يزيد سكانها على 22 مليون نسمة لهذا الوضع؟
الحال سيئ للغاية في سيرلانكا، ويكفي معرفة أن المدارس أغلقت لعدم قدرة الحكومة على توفير الورق والأحبار، وأن المستشفيات ألغت الكثير من العمليات لعدم توفر خيوط الجراحة. كما أن الحصول على الوقود قد يستدعي الانتظار في الطوابير لمدة لا تقل عن ثلاثة أيام، لدرجة أن 13 شخصاً توفوا وهم في هذه الصفوف. عدم توفر الوقود شل المواصلات بشكل شبه كامل، هذا الشلل أدى إلى انقطاع الأغذية عن المدن، ونقص الأدوية والمؤن، وهو ما تسبب في اضطرابات عنيفة انتهت بإعلان الرئيس استقالته ابتداء من الثالث عشر من هذا الشهر.
لم تصل سيرلانكا إلى هذا الحال بين عشية وضحاها، بل وصلت إليه باستمرارها بسياسات مالية متخبطة، وفساد حكومي، ومحاباة لعائلة راجاباكسا التي سيطرت على الحكم منذ عام 2005 حتى اليوم. ورغم أن الرئيس (جوتابايا راجاباكسا) هو بطل حرب، وهو إحدى أهم الشخصيات التي ساهمت في إنهاء الحرب الأهلية عام 2009، إلا أنه أثبت فشلاً ذريعاً في إدارة البلاد، وهوى ببلاده إلى هذا الحال.
أخطاء الحكومة السيلانية كانت على عدة مستويات، أولها هو استثمارها غير المدروس في البنى التحتية، فمنذ خرجت البلد من الحرب الأهلية، استثمرت الحكومة بشكل مكثف في البنية التحتية، ويبدو هذا الأمر طبيعياً وحكيماً، لكن هذه الاستثمارات زادت مستوى الديون التي لم تزد على 20 مليار دولار عام 2009، ووصلت إلى نحو 60 مليار دولار الآن. كما أن العديد من هذه الاستثمارات واجهت انتقادات عنيفة، مثل بناء ملاعب للكريكت، والتوسع المبالغ فيه للموانئ، وبناء الأبراج التجارية.
ثاني الأخطاء ارتكبتها الحكومة المنتخبة عام 2019، فحتى تفوز بالانتخابات الرئاسية، وعدت الحكومة المنتخبة بتخفيض الضرائب، وبالفعل خفضتها حين فازت، وانخفض بذلك دخل الحكومة بنسبة 25 في المائة، في وقت كانت الحكومة في أشد الحاجة إلى هذا الدخل لتتمكن من سداد ديونها المتراكمة. وما زاد الطين بلة أن ذلك العام شهد حادثة تفجير إرهابية في العاصمة كولومبو تسببت في انخفاض السياح بنسبة 70 في المائة، ليتأثر بعدها القطاع السياحي الذي يشكل ما نسبته 22 في المائة من الناتج القومي لسيرلانكا.
كما اتخذت الحكومة قراراً غير مفهوم وغير مبرر، وهو منع الأسمدة الكيميائية كلياً، ودفعة واحدة، في طموح منها لتصبح دولة عضوية 100 في المائة، وهو قرار أثبتت الأيام حماقته، فانخفض المحصول الزراعي إلى النصف تلك السنة، وأصبحت البلاد تستورد الأرز بعد أن كانت مكتفية ذاتياً. وزاد تأثر احتياطي العملات الأجنبية بإضافة واردات أخرى للبلاد. وجاءت الجائحة لتكمل بذلك سلسلة من المصائب التي حلت على البلاد، فانعدمت السياحة كلياً، وتضررت الحوالات القادمة من العاملين خارج البلاد، وأصبحت البلاد بعدها جاهزة للانفجار في أي وقت.
وفي أبريل (نيسان) أعلنت الحكومة عدم قدرتها على سداد ديونها، وهي بذلك أصبحت حكومة «مفلسة» رسمياً، ولأول مرة في تاريخها. بل ووصلت إلى حال لم تمكنها حتى من سداد واردات الوقود والأغذية والأدوية. بعد أن استهلكت خلال الثلاثة أعوام الماضية كامل احتياطياتها من العملات الأجنبية التي بلغت نحو 8 مليارات دولار عام 2019، لتهوي إلى 1.6 مليار عام 2021 وتصل الآن إلى الصفر. لتصبح سيرلانكا اليوم تحت رحمة صندوق النقد الدولي بشكل خاص، والمجتمع الدولي بشكل عام، وهي تأمل أن تزودها كل من الصين والهند واليابان بتمويل يمكنها من الصمود حتى وصول حزم الإنقاذ من الصندوق. ورئيس وزرائها الجديد لم يخف قتامة المشهد، فالبلاد مستمرة على هذا الحال حتى نهاية العام المقبل، وقد تشهد تضخماً يصل إلى 60 في المائة، ولن ينخفض قبل عام 2025، ومستهدف النمو للعام المقبل هو - 1 في المائة، والمتوقع هو - 5 في المائة.
إن ما وصلت إليه سيرلانكا هو مثال حي على ما يمكن أن تفعله الحكومات المتخبطة، فقد كانت البلاد على شفا حفرة طيلة السنوات الماضية، وما أخّر هذه الكارثة ازدهار السياحة فيها. وحتى السياحة نفسها لم تكن لتحل هذه المشكلة، التي سببتها أزمة الاعتماد على الديون لتعزيز النمو السريع غير المدروس، ليأتي بعدها انهيار اقتصادي شامل، بدأ اليوم في سيرلانكا، وقد يمتد إلى دول كثيرة مشابهة، انتهجت السياسات نفسها، وقد تصل إلى النتائج نفسها.