زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

جزيرة العرب كما لم نعرفها (2)

ما زلنا نتحدث عن مشروع التعاون المشترك بين الفريق البحثي لهيئة التراث بالمملكة العربية السعودية، وفريق خبراء معهد «ماكس بلانك» الألماني لعلوم تاريخ الإنسان، وعنوان المشروع هو «الجزيرة العربية الخضراء». والحقيقة التي صارت ماثلة أمام علماء الآثار اليوم وبعد مرور ما يقرب من قرنين من الزمان على نشأة علم الآثار، هو أن معول الحفر وحده لم يعد الوسيلة الوحيدة للكشف عن أسرار العالم القديم، ولكنّ هناك علوماً أخرى يمكنها أن تساعد علماء الآثار في بحثهم عن حقيقة النشاط الإنساني في الأزمنة القديمة، ومن تلك العلوم المهمة علم المناخ والدراسات البيئية وكذلك علم جيولوجيا الأرض، وعلم النظم الجغرافية، وغيرها من العلوم كما سنرى.
لعل من أهم نتائج مشروع «الجزيرة العربية الخضراء» هو ما أكده الباحثون القائمون على هذا المشروع العلمي أن ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من معلومات حول البيئة القديمة والوجود البشري بالجزيرة العربية تشير إلى عدم مواجهة الجماعات البشرية صعوبات في التأقلم مع طبيعة المنطقة سواء المناخية أو الجيولوجية، بالإضافة إلى أن العثور على بقايا حيوانية بالجزيرة العربية، والتي تتشابه مع الحيوانات التي تنتمي إلى البيئات المدارية الأفريقية والصحراوية، يشير إلى احتمال حدوث هجرات بشرية خلال العصر الرباعي الوسيط، الذي بدأ قبل نحو 800 ألف سنة مضت، كذلك خلال العصر الرباعي المبكر الذي بدأ قبل نحو 2.6 مليون سنة مضت إلى الجزيرة العربية، قادمة من أفريقيا، ومنها انتقلت الجماعات البشرية إلى أنحاء قارتي آسيا وأوروبا. هذه النتائج جد مهمة في تتبع النشاط البشري على أرض الجزيرة العربية منذ العصور الأولى وإلى العصر الحديث. ويجب التأكيد أن هذه النتائج هي مجرد البداية لسلسلة طويلة من البحث العلمي والتي سيترتب عليها إما ظهور أدلة جديدة تؤكد ما سبق من نتائج، وإما العكس، وتلك هي متعة البحث العلمي خصوصاً علم الآثار المثير.
لقد تمكن الباحثون ضمن «مشروع الجزيرة العربية الخضراء» ومن خلال المسوحات المُكثفة وأعمال الحفائر العلمية المنظمة، من فهم الظروف المناخية القديمة وطبيعة البيئة السائدة في الجزيرة العربية خلال العصور المختلفة، وذلك من خلال تحليل ودراسة البقايا الحيوانية المتحجرة بموقع تل الغضا، الواقع غرب صحراء النفود. وقد أظهرت تلك الدراسات وجود أنواع متعددة من الحيوانات ومنها الفيل مستقيم النابين وحيوان النّو، والأسماك، والطيور، مما يؤكد انتشار وكثافة النباتات وتوفر المياه بشكل دائم. كذلك فإن العثور على بقايا متحجرة لما تُعرف بالسنوريات كبيرة الحجم مثل النمر الأوروبي والضبع يعدّ دليلاً على أن صحراء النفود في السعودية كانت موطناً لأنواع كثيرة من الحيوانات.
أيضاً كشفت النتائج العلمية، من خلال استخدام نماذج حسابية خاصة ونظم المعلومات الجغرافية للبحيرات والأنهار القديمة، أن موقع طعس الغضاة لم يكن واحة منعزلة، وإنما يرتبط بسلسلة متصلة من البحيرات القديمة التي تشكلت في الفترات المطيرة، وبذلك أصبح في الإمكان التأكيد أن وجود إدارة «نظم المعلومات الجغرافية» التي تُعرف اختصاراً بـ(GIS) ضروري ومهم ضمن الإدارات المختلفة المرتبطة بالعمل الأثري. وقد شرفت بكوني أول من قام بإنشاء هذه الإدارة في مصر عندما كنت أشغل منصب الأمين العام للآثار. وسرعان ما نمت هذه الإدارة وساعدت الكثير من البعثات الأثرية في عملها.