مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

الاتحاد الأوروبي... من بريكست إلى فريكست

تلك الأحداث تتحدى تقريباً كل التحليلات السياسية المستقرة في الشرق والغرب، فالوضع مربك للغرب، لم يمضِ عامان على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتى بدأ خلاف كبير بين الاتحاد وبولندا، التي تضع قانونها الوطني فوق القانون الأوروبي... ها هو الهرم الأوروبي، الذي تشكل 3 مرات خلال قرن واحد بسبب أزمات الهوية، ما زال يقوض بذلك أسس الاتحاد، فالوضع متوتر على حدود بولندا الخارجية للاتحاد الأوروبي، إذ تريد بولندا بناء جدار حدودي لمنع تهريب المهاجرين من بيلاروسيا، علماً بأن هذا الاتحاد أحكم قبضته على إقامة هذا التكتل بدقة.
اليوم تتابع الأحداث، فبعد خسارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأغلبية البرلمان، تزايدت الضغوط عليه، كان أحدثها تصاعد المطالب بإجراء استفتاء على مغادرة الاتحاد الأوروبي، فيما أكد محللون أن «الفترة الرئاسية الثانية» لماكرون ستغلب عليها الانقسامات، بعد توسع نفوذ اليسار واليمين المتطرف، فهل يرضخ ماكرون لمطالب الخروج من الاتحاد الأوروبي؟
في الوقت نفسه، كلف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي 1300 دولار لكل مواطن، ما يعني أن تكلفة الحياة ستزيد أكثر، وما يحدث حالياً لا يساوي سوى 500 دولار، وهذا يعني أن على كل مواطن دفع تكلفة الـ800 دولار الباقية ثمناً لهذا الخروج، وقيل إن سنة واحدة كافية لكي يمر البريطانيون بأزمات كان سببها المباشر أو غير المباشر هو «البريكست»، بعد نحو 10 أشهر من مفاوضات بشأن طبيعة العلاقة مع الاتحاد ومغادرة المملكة المتحدة السوق الموحدة.. وخرجت بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي، بعد ما يقارب نصف قرن من انضمامها إلى التكتل.
في هذه الأثناء يحمل الفكر المتسائل معه فرضياته الخاصة، النابعة من ماهية السؤال المطابق للأحداث والتقلبات السياسية، وتطرح ذاتها كبديهيات لكي ترى حجم اهتزاز الخريطة السياسية لدول الاتحاد وتباين المواقف بينها مستقبلاً، فبعد مرور الاتحاد بعدة أزمات كبيرة بدأت في عام 2020 بخروج بريطانيا بشكل حاسم، وظهر ذلك جلياً بعد صعود القوى السياسية التي تعارض سياسته، والتي قد تكون قراراتها مؤثرة، وتجذب الشعوب وتثير اهتمامهم، ما يعني أن حالاً يلتبس به ومقاماً أشد ما يكون قريباً يخرج من كيانه، فالاتحاد الأوروبي لا يخفي تخوفه من انتقال عدوى الانسحاب إلى باقي الأعضاء.
عند هذا المنعطف تمردت الشعوب بعدما أصيبت دول الاتحاد بانتشار «كوفيد 19» بموقف محرج، سرعان ما اكتشف العالم اختلالاً وتدني مستوى المنظومة الصحية والاجتماعية في القارة الأوروبية، حتى أصبحت أكبر بؤرة لتفشي الوباء في العالم بعد أميركا، وغدا عالماً مرهوناً بخروج الذات من صمتها ودخل الإنسان في حالة من القلق، لما عايشه، وأصابه بالرعب، فسجلت إيطاليا نسبة عالية من الإصابات وعدد الوفيات، تليها إسبانيا ثم ألمانيا وفرنسا، وفي الوقت نفسه لم تتصرف معاً كدول متحدة وكَتَجمّع أساسه التضامن والتكافل بين جميع مكوناته.
بل ساد غياب الحس التاريخي لهذه المواثيق، وهذا يعني ذلك الخلل الموروث الذي تشاركته دول الاتحاد؛ حيث تركت إيطاليا تستغيث وتطلب العون من محيطها الأوروبي بدون جدوى، فكان التأثير مأساوياً ومحبطاً بسبب الأزمة الصحية التي جعلتهم غير منسجمين مع الشرعية التي أرادوها، فالتحالفات كانت أقرب إلى التقلبات، وهذه حقيقة التاريخ الأوروبي الذي دام عمره نحو 70 عاماً من الشراكات الاقتصادية والتحالفات السياسية والاجتماعية، وبعد فترة مزدهرة ومتعاظمة بمنتوجاتها وتوسعاتها، بدأت تظهر عليها عوامل الشيخوخة والتفكك.
مقابل ذلك، كان العالم على يقين بأن العلاقات الأوروبية أكبر قوة بعد اتحادها، فتستطيع أن تتجاوز الأزمات كقوة واحدة وكيان واحد، في مواجهة الوباء، وتملك الحلول والعلاج، ولكنها تكبدت أكبر الخسائر وسقطت فريسة له، لا شك في أنها إرادة فاقدة لمرادها، لكن تاريخها يخبر بأنها تتجدد باستمرار وتولد من بعد موتها إذا طرحت عنها أوهام الماضي والعصر الذهبي، أي أن كل استنتاج لسلسلة من الأحداث ينطلق من مجموعة من المسلّمات حتى يتغير منطقها، وكمثال فرنسا وألمانيا ودول أخرى منعت تصدير المستلزمات الطبية إلى جيرانها الأكثر إصابة بالفيروس، ضاربة عرض الحائط بكل الأصوات التي تستغيث وتطلب المساعدة في الأزمة العالمية.
لقد وجد الإنسان الأوروبي نفسه يعيش في عالم تقني محكوم بحاجات مصطنعة، مهددة وجوده بوعي زائف يقتلعه من قناعاته وثقته بمحيطه بعدما انهمكوا في صراعات دامية للوصول لجغرافيا صدعتها عدة أزمات، فحلت عليهم تلك الأزمة غير المسبوقة (كوفيد 19) وتركت تأثيراً بالغاً لدى الشعوب واقتصادات البلدان، وتنصل المجتمع الغربي من مسؤولياته، فقلب تخوفه كل المفاهيم وألغى القيم، وزجت بالإنسان في حالة من التعايش مع الخطر، وتبدل السيئ بالشيء الرهيب القاتل.
وقاموا بعد ذلك بتهيئة المناخ لكابوس الاقتصاد والتخلي عن أي شيء عاطفي أو وجداني، خاصة بعد التوترات المتواصلة في الاتحاد الأوروبي ونظام اللجوء والمهاجرين والخلافات حوله، فهل خلافات الهجرة وبولندا، تفكك الاتحاد الأوروبي؟ كمعضلة أخرى، لأن القرارات التي يتم اتخاذها لا تناسب الدول التي تمثل «النواة» الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، ليصبح الحل الوحيد أمام ألمانيا وغيرها هو مغادرة الاتحاد!
من الطبيعي أن يكون البحث هنا عن حدة هذه القوة، وكيف اضطر ممثلو ألمانيا في البنك المركزي الأوروبي إلى تقديم استقالتهم اعتراضاً على قرار البنك بتحفيز الاقتصاد من خلال إصدار أموال غير مغطاة، لأن ألمانيا حافظت حتى عام 2019 على فائض في الميزانية، ونما اقتصادها بشكل أو بآخر، فالنماذج الاقتصادية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي متناقضة، وتتطلب «علاجات» مختلفة، ويعتبر تحدياً ضخماً (حيث تحتاج إيطاليا، على سبيل المثال، إلى بضعة أضعاف ما تحتاجه ألمانيا من موارد لإنقاذها اقتصادياً، مع أن حجم الاقتصاد الألماني يفوق نظيره الإيطالي).
هناك حجر عثرة في وجه الاتحاد قد يكون من أهم العقبات التي تواجهه، وهو استبدال المنفعة الاقتصادية بالمصلحة السياسية، فالأساس الآيديولوجي للاتحاد الأوروبي يقوم على الازدهار الاقتصادي كركيزة أولى.