مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

الأزمات الخمس للدول النامية

في مقال الأسبوع الفائت عرضتُ للأزمات الخمس التي تعاني منها الدول النامية بدرجات متفاوتة وهي: أزمة الهوية، وأزمة الشرعية، وأزمة المشاركة السياسية، وأزمة توزيع الموارد أو غياب المؤسسات القادرة على التوزيع، وأزمة تغلغل الدولة أو إحساس المواطن بوجود الدولة في كل أراضيها. وبأزمة الهوية لا أعني مطلقاً ما يفهمه مَن يأخذون الكلام من شواشيه ممن يقولون إننا «مجتمع مسلم في غالبيته ونتحدث لغة واحدة ولنا تاريخ مشترك وليست لدينا أزمة هوية»، فهذا فهم قاصر لما نقصده بأزمة الهوية في سياق بناء الدول (state building). أزمة الهوية يجمعها خيط قانوني يحس فيه المواطن حتى ولو اختلف عن الهويات الأدنى بأنه جزء من نسيج وطني واحد. وأزمة الهوية في إطار دراسات بناء الدول وإدارتها ليست كأزمة الهوية الشخصية في إطارها السيكولوجي كما يطرحه العالم الألماني إرِك أريكسون. فإذا أخذنا المثال المصري أو اللبناني مثلاً، فهناك مواطن لبناني شيعي جنوبي عربي، وهناك نوبي مسلم صعيدي وعربي، والهوية هنا مثل السلم يصعد الفرد درجاته وقت تهديد أي مستوى من مستويات الهوية، إذ تتأكد النوبية مثلاً إذا كانت المشكلة داخل الإقليم المعروف بالصعيد، ويصعد سلمة أخرى لتصبح هويته صعيدية جنوبية عندما يكون في مواجهة مع أهل القاهرة أو أهل الشمال، وتتأكد هويته الإسلامية عندما يجد نفسه مهاجراً في بلاد غير مسلمة... إلى آخر هذه التهديدات. إذن الهوية هي سلم يصعد وينزل الفرد من درجاته حسب السياق وهي ليست شيئاً جامداً. وردُّ البعض بأن بلادنا ليست بها مشكلة هوية سياسية، هو في إطار السطحية الفكرية والسياسية التي لا يعوَّل عليها في لحظات الأحاديث الجادة ولحظات الأزمة. هذا النوع من الأحاديث السطحية هو الذي يسهم في تعميق أزمة الهوية، والحكومات مسؤولة عندما تصدّر في الواجهة من خلال إعلامها وجوهاً ترفل في السطحية وتظنها معرفة. هؤلاء لا لوم عليهم، فالجاهل دوماً لا يدرك أنه جاهل ما دامت سُلطت عليه الأضواء ووضعه من بيدهم زمام الأمر في مقدمة الصفوف. وهذه قصة طويلة تحتاج إلى نقاش منفصل. ولكنها أيضاً ظاهرة ليست عربية، فهي دوماً موجودة في الأنظمة المغلقة التي تعاند في إدارة أزمة الهوية على حساب تماسك الدولة ومؤسساتها.
المشاركة السياسية ليست بالضرورة غائبة في مجتمعاتنا رغم الانغلاق، فالزميلة دايان سنجزمان كتبت في منتصف التسعينات كتابها المميز عن المشاركة السياسية في أحياء القاهرة العشوائية والتي ترى أن الناس العاديين لديهم قدرات عجيبة للمشاركة ليس بالشكل الرسمي ولكن من خلال شبكة من العلاقات، فالمرأة الشعبية التي تخدم في بيت لواء الشرطة تستطيع بواسطتها أن تُدخل ابن الجيران أو ابنها كلية الشرطة مثلاً رغم صعوبة ذلك وتصبح صاحبة واسطة لأهلها من خلال شبكة علاقات غير رسمية (informal institutions)، وشبكة العلاقات غير الرسمية هذه هي التي تجعل المهمشين جزءاً من النظام... وهكذا أحياناً تنقذ الحيل الشعبية النظام ذاته من مواجهة أزمة المشاركة التي تتعرض لها أنظمة شبيهة. ورغم تميز الدراسة التي تلفت نظرنا لقراءة الجانب غير الرسمي من السياسة، فإنها قد تُعفي النظام من أهمية اشتمال كل أبناء الوطن من خلال توسيع دائرة المشاركة السياسية بشكلها الرسمي، وفيها أيضاً نوع من قبول شبكات الواسطة كبديل للنظام الرسمي. أزمة المشاركة السياسية هي أزمة حقيقية في المجتمعات المغلقة تحتاج إلى المواجهة من خلال تقديم الحلول وليس بالحوار وحده.
أما أزمة الشرعية فكتب عنها الراحل مايكل هدسون كتابه الشهير عن أزمة الشرعية في العالم العربي والذي حصل على جائزة ككتاب متميز عن الشرعية وعن الدراسات الشرق أوسطية في ذات الوقت. فيه يؤكد هدسون أن أزمة الشرعية وتآكلها في المنطقة في حال التحول من الدول التقليدية إلى الدول الحديثة ستبقى من أولى الأزمات العضال التي تواجهها المنطقة، ورغم أن الكتاب نُشر منذ أربعين عاماً فإن الأزمة ما زالت باقية وواضحة للعيان، وقليلون يريدون مواجهتها بشكل مباشر. الأنظمة الثورية في منطقتنا أحياناً تأتي بزخم من الشرعية وما تلبث أن تبددها في قمار سياسي من خلال فشل السياسات، كما كان الحال مع جمال عبد الناصر وهزيمة 1967، أو مغامرات صدام حسين الذي حوّله غرور القوة تدريجياً إلى رئيس غير شرعي في عيون شعبه... والأمثلة كثيرة.
أما أزمات التغلغل في نطاق الدولة وإحساس المواطنين بوجود سلطاتها على الأرض، فهي في نظري أُمّ الأزمات في كثير من بلدان العالم العربي.
فإذا أخذنا ما حدث من عنف في سيناء على سبيل المثال أو يحدث حتى في صعدة في اليمن، فهو نتيجة لإهمال هذه المناطق وإخراجها من دائرة السياسة إلى دائرة الأمن، ومن هنا تأتي ردّات الفعل العنيفة. فبدلاً من اعتراف الدولة بالحق التقليدي للبدو في الرعي وتقنين أراضيهم أو تصحيح أوضاعهم قررت الدولة أن تبيع الأراضي لرجال أعمال قادمين من القاهرة بسعر بخس ليبنوا عليها مشروعاتهم ويتحوّل المواطن السيناوي إلى مجرد حارس أي خفير.
التغلغل هو تغلغل سلطة الدولة العادلة التي ترى كل مواطنيها بذات العدسات ولا تضطرهم لقبول أمر جديد وغريب.
كل هذه الأزمات لا يحلها الحوار بل تحلها سياسات مدروسة من خلال الاشتمال وتوسيع دائرة المشاركة، ولهذا أقول إن الحل يتكون من عنصرين؛ أولهما السياسة وثانيهما السياسات (politics and policy)... فقط بالسياسة والسياسات تدار المجتمعات لتجاوز أزماتها.