علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

«كرسي الأدب الحديث» أزهد محمد حسين بالأدب الجاهلي!

إن مقالات محمد حسين الخمس التي كتبها ضمن مقالاته الأزهرية والتي أوسع فيها أستاذه طه حسين تهجماً ونيلاً غير كريم، لم تكن هي المرة الأولى في اختلافه العدواني معه.
فالمرة الأولى سبقتها بفترة وجيزة، وكانت مع صدور الجزء الثاني من كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) عام 1956. وكنت في مقال سابق قد سهوت فذكرت أن هذا الجزء صدر عام 1962 مع صدور الطبعة الثانية للجزء الأول. والصحيح أنه في هذا العام صدر الجزآن معاً، وكان كل منهما يمثل الطبعة الثانية من الكتاب.
كنت في مقال (عدوانيات محمد محمد حسين) قد ذكرت أنه حين أعاد إصدار كتابه (ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس) عام 1968 الذي صدر في طبعته الأولى عام 1950، حذف من مقدمته كلامه عن تاريخ صلته بالأعشى الكبير وكيف بدأت. وإشراف طه حسين على رسالته للماجستير وأثره الكبير في تقريب الشاعر الأعشى من نفسه وفي اتخاذه العصر الجاهلي ميداناً لدراسته المستقبلة، وأجّلت ذكر علة هذا الحذف في نفسه. وسأذكرها الآن.
الحذف كان لسببين:
السبب الأول، أنه منذ عام 1950 إلى عام 1968 كان قد اتخذ العصر الجاهلي وراءه ظهرياً. فهو لم يلتفت إليه في كتاب ولا في بحث ولا في مقالة ولا في محاضرة. وهذا يخالف ما قاله في مقدمته من أن لتوجيه أستاذه طه حسين أثراً كبيراً في اتخاذه العصر الجاهلي ميداناً لدراسته المستقبلية، لأنه ما لبث بعد إعلان خطته الأكاديمية في المستقبل أن غيَّر تخصصه في الأدب الجاهلي إلى التخصص في الأدب العربي الحديث، ذلك لأن (كرسي الأدب الحديث) في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية كان قد خلا، فرآها فرصة سانحة -بغية الترقي في وظيفة التدريس الجامعية- أن يشغل كرسي الأستاذية في هذا التخصص. ومن أجل تحقيق هذا الغرض أنجز دراسته (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وحصل بها على أستاذ (كرسي الأدب الحديث) في ذلك القسم.
تفسيري لسبب تغيير محمد محمد حسين تخصصه من الأدب الجاهلي إلى الأدب العربي الحديث، يستند إلى معلومة أوردها الدكتور سعيد منصور في حوار صحافي أجراه معه أبو الحسن الجمّال حين سأله عن نوع علاقته بأستاذه الدكتور محمد محمد حسين. فلقد قال ضمن إجابة مفصلة عن هذا السؤال: «ثم حينما خلا في القسم (كرسي الأدب الحديث) استطاع أن يتجه إلى دراسة (الاتجاهات الوطنية في الشعر العربي الحديث) في كتاب ضخم نشره في جزأين في مجلد واحد، وحصل به على كرسي الأستاذية في الأدب من ضمن ستة كراسي في قسم اللغة العربية بآداب الإسكندرية خلال خمسينات القرن الماضي». راجع كتاب أبو الحسن الجمّال: (أسئلة العصر الثقافية: حوارات وذكريات).
في هذا الحوار الصحافي أكثر من معلومة جديدة عن محمد محمد حسين، وكان يحسن بمعدّ الكتاب ومحرره أبو الحسن الجمّال أن يصحح عنوان الكتاب، فعنوانه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، وليس (الاتجاهات الوطنية في الشعر العربي الحديث). وأن يصحح عنوان كتاب آخر ورد اسمه خطأً قبل سطرين من الاقتباس السابق. فمحمد محمد حسين ليس له كتاب عنوانه (الغرب والحضارة الإسلامية)، وإنما العنوان الصحيح لهذا الكتاب هو (الإسلام والحضارة الغربية).
أن تكون أستاذ (كرسي الأدب الحديث)، فإن هذا لا يمنع أن تؤلف كتاباً أو تحقق مخطوطة أو تكتب بحثاً أو مقالة أو تلقي محاضرة في موضوع تخصصك الأكاديمي السابق، الذي هو الأدب الجاهلي، كما في حالة محمد محمد حسين، لأن ذلك الكرسي الذي كان يقتعده لن يهتز به، ولن تتهرأ رجلاً من أرجله، فيغدو بعد ذلك كرسياً أعرج.
ومما لاحظته أن بعد حيازته ذلك الكرسي إلى أن تُوفيّ، لم يصنع عملاً من الأعمال التي أشرت إليها. وهذا ليس له سوى تفسير واحد، وهو أنه لسبب نفسي ووجداني خاص به، زهد في الأدب الجاهلي، ولم يودّ أن يرتبط اسمه به بوصفه أكاديمياً مختصاً بهذا الموضوع، رغم اعتداده برسالته للماجستير (صناجة العرب، أعشى قيس) وبرسالته للدكتوراه عن الهجاء والهجائيين في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وبإخراجه لديوان الأعشى الذي أفصح في مقدمته عن أنه منذ أن اشتغل على موضوعه في رسالة الماجستير، كان قد نذر نفسه لخدمة العصر الجاهلي على صعيد الدراسة وعلى صعيد التحقيق. وقد فعل ذلك في رسالة الدكتوراه وفي إخراجه لديوان الأعشى. وتضمّن إفصاحه هذا وعداً بأن هناك المزيد من الأعمال الذي سيكون مدارها ذلك العصر، لكنه أخلف ما وعد به.
السبب الثاني، إشارته إلى أن طه حسين كان المشرف على رسالته للماجستير. والأزيد من ذلك إشارته إلى أنه حبّب إليه شعر الأعشى وشعر شعراء الجاهلية، مما حفّزه أن يجعل العصر الجاهلي محور دراساته في المستقبل.
قد يقول قائل إن هذا السبب لا ينفع أن يكون سبباً مستقلاً، فهو يتبع السبب الأول، وهو جزء غير منفصل عنه، وإنما يتعلق بالسبب الأول
وهو أنه أخلف وعده عقد العزم ألا يفي حتى باليسير منه
فالأمر لا يتعلق بالمعلومة التي أشار فيها إلى أن طه حسين كان المشرف على رسالته للماجستير، ولا بالمعلومة الأزيد منها، وهي أن طه حسين حبب إليه شعر الأعشى وشعر شعراء الجاهلية.
وإنما يتعلق بالسبب الأول
وهو أنه أخلف وعده عقد العزم ألا يفي حتى باليسير منههذا الاعتراض صحيح ظاهراً لكنه غير صحيح باطناً.
فلو كان حذفُه لاسم طه حسين من مقدمة كتابه (ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس) في طبعته الثانية عام 1968، يكمن في السبب الأول، لكان قد عالج هذا المشكل بذكر المعلومة الأولى في مقدمة كتابه (أساليب الصناعة في شعر الخمر والناقة بين الأعشى والجاهليين) الصادر عام 1960، واستغنى عن المعلومة الثانية لأنها متصلة بتتمتها، وهي قوله: «وفي اتخاذ العصر الجاهلي ميداناً لدراستي المستقبلية».
وهناك شاهد آخر، وهو أن محمد محمد حسين في كل كتاباته المناوئة لطه حسين، وهي حسب ترتيبها الزمني: الجزء الثاني من كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، ومقالاته الأزهرية التي جمعها لاحقاً في كتابه (حصوننا مهددة من داخلها)، و(الإسلام والحضارة الغربية)، و(الإسلام وأزمة العصر) لم يشر البتة إلى أنه كان تلميذاً لطه حسين أو أنه كان يعرفه عن قرب.
فهذه المعلومة عُرفت من مقدمة كتابه (ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس) طبعة عام 1950.
تعويلاً على الشاهد الأخير، أستأنف القول في الرد على ادعاء أنور الجندي أن طه حسين اضطهد محمد محمد حسين لمجرد أنه اختلف معه في الرأي، فاضطره إلى أن يهاجر إلى بيروت ثم إلى الرياض! أسأل: كيف عرف بهذا الفصل المخفيّ من حياة محمد محمد حسين في جامعة الإسكندرية؟! هل كان من خاصته يُسِرّ إليه بما كتمه عن قرّائه الإسلاميين؟!
كتمه عنهم حينما قال في خاتمة النبذة التي كتبها بخط يده عن مراحل تعلّمه الدراسي وعن تدريسه الجامعي: «وأُعرت أثناء عملي –يقصد عمله في جامعة الإسكندرية– إلى الجامعة الليبية وجامعة بيروت العربية. ثم تعاقدت مع جامعة بيروت العربية بعد بلوغي سن التقاعد سنة 1972، وظللت بها إلى أن تعاقدت مع جامعة محمد بن سعود الإسلامية سنة 1976 حيث أعمل الآن». راجع ظهر غلاف كتيبه (المتنبي والقرامطة).
يقول محمد عبد الحميد محمد خليفة في رسالته للماجستير (دراسة النص الأدبي عند محمد محمد حسين) التي أعدها في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية مفصلاً هذه النبذة: «أعيرَ إلى الجامعة الليبية –بنغازي حالياً– من عام 1960 إلى 1964 ثم أُعيرَ ثانيةً إلى جامعة بيروت العربية عام من 1968 إلى 1972، حيث تقاعد بعد انتهاء مدة خدمته، فتعاقد مع جامعة بيروت من 1972 إلى 1976، ثم تعاقد ثانية مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1976 حتى 1982، ثم اعتذر عن تجديد تعاقده مع الجامعة الأخيرة، فعاد إلى موطنه بالإسكندرية، حيث تسلم عمله بجامعته الأصلية كأستاذ غير متفرغ في أغسطس (آب) عام 1982».
عمله في الجامعة الليبية معلومة لا يجهلها أنور الجندي، ففي البورتريه الصحافي الذي قدمه عنه في كتابه (مفكرون وأدباء من خلال آثارهم) الصادر عام 1967 ذكر أنه «عمل فترة في جامعة ليبيا» لكنه نسيها. ولو كان متذكراً لها حين افترى أن طه حسين اضطهد محمد محمد حسين، وأبعده عن جامعته، جامعة الإسكندرية، لاختلافه معه في رأي من الآراء، لزاد منفيَيْه في بيروت ثم الرياض منفى ثالثاً، وأعني به منفى بنغازي، وجعل بنغازي هي منفاه الأول.
إنه نسي هذه المعلومة التي كتبها قديماً، لأنه خالف نصيحة المثل الذي يقول: إذا كنت كذوباً، فكن ذكوراً.
في السرد الذي قدمته في مقال (عدوانيات محمد محمد حسين) بيّنت أن محمد محمد حسين قبل انقلابه الفكري لم يختلف في رأي من الآراء مع طه حسين، بل إن ظاهر حياته –كما يقول محمد عبد الحميد محمد خليفة في رسالته غير المطبوعة في كتاب– يوحي بتأثره الواضح بأستاذه طه حسين منهجاً في الدراسة وأسلوباً في التفكير النقدي، حتى إنه –في ظني– قد انتهج الشك المنهجي في أكثر من موضع في دراساته الأدبية حين حقق بعضها في الروايات والنصوص، وتصوِّر الطبعات الأولى لآثاره من تلك الحقبة التزامه المنهج العلمي الذي نادى به طه حسين في الدراسة الأدبية، وما يقتضيه هذا المنهج من حرية في البحث وموضوعية في التفكير.
في الجزء الأول من كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) الذي صدر قبل مدة وجيزة من انقلابه الفكري استشهد في الطبعة الأولى بكلام لطه حسين في الفصل الأخير من هذا الجزء (نزعات إصلاحية) في موضعين:
الموضع الأول، في بدء حديثه عن الفريق الثاني في زعماء النهضة، فريق الاحتفاظ بالتقاليد الإسلامية، قال: «وقد كان أشد ما أفزع أصحاب هذا المذهب أن شباب المسلمين ممن فتنتهم المدنية الغربية قد استقر في وهمهم أن النسبة إلى الدين سبّة، وأن الظهور بالمحافظة عليه معرّة، حتى لقد احتاج أديب من أدباء ذلك العصر، وهو الشيخ طه حسين إلى أن يعتذر عن بدء محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه فقال: «سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه، لأن ذلك يخالف عادة العصر».
وفي الهامش كتب «مجلة الهداية، عدد أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1911، ص861».
وأسمح لنفسي بأن آتي بهذا النص كاملاً من المصدر الأصلي، مع بعض الإيضاحات حوله:
«أيها السادة: سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني أبدأ هذه المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه، لأن ذلك يخالف عادة العصر الجديد ولكن لي من ذلك معذرة، سيعلمونها فيما بعد، فأحمد إليكم الله أجمل حمد وأصلي على نبيه أحسن صلاة».
المحاضرة كان عنوانها (هل تسترد اللغة مجدها القديم؟)، وقدمتها المجلة قائلة: «محاضرة ألقاها الأستاذ الأديب الشيخ طه حسين في نادي موظفي الحكومة في مساء الخميس 19 أكتوبر سنة 1911»، ألقاها حين كان طالباً في الجامعة المصرية الأهلية. وهي حسبما ذكر محمد سيد كيلاني في كتابه (طه حسين الشاعر الكاتب) أول محاضرة له.
مجلة (الهداية) أنشأها الشيخ عبد العزيز جاويش، أستاذ طه حسين السابق، في فبراير (شباط) عام 1910، وتوقفت في يونيو (حزيران) 1912، وكانت معنية بالإصلاح الديني والدنيوي. ولطه حسين فيها مقالات. أعاد الشيخ جاويش إصدارها في الأستانة على نحو متقطع وأوقف إصدارها نهائياً عام 1914.
نلحظ أن محمد محمد حسين في استشهاده بالكلام الذي افتتح طه حسين محاضرته به قدم لاسمه بأنه «أديب من أدباء ذلك العصر»، وذكر اسمه مقروناً بلقب الشيخ، الذي يغلب إطلاقه عليه في تلك الفترة وفي عشرينات القرن الماضي، لدراسته في جامع الأزهر.
الموضع الثاني، استشهد بكلام لطه حسين، وهو يتحدث عن بحث لعبد العزيز جاويش في وجوب مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق الشريعة للتوفيق بين الدين والحياة. فبعد أن أورد فقرات منه، قال: «وقد كان مما استتبعه هذا المنهج أن أعاد الكتّاب النظر في بعض أحكام الشرع، في ضوء الظروف التي تخضع لها الأمم الإسلامية، فمن ذلك ما كتبه عبد العزيز جاويش سنة 1910، في زواج المسلم بالكتابيات من الأوروبيات –وهو مباح شرعاً– طالباً أن يعدل المسلمون عنه، لما ينتج عنه من مضار اجتماعية وسياسية». وينقل عنه نصاً قوله: «فإنها لا تتحرر بالهجين من أبنائها، ولكن بالمصري الصحيح الذي لم تشبه شائبة أجنبية».
ثم قال: «وكتب طه حسين في الموضع نفسه سنة 1911...»، وأورد اقتباساً مما قاله يزيد على تسعة أسطر بكلمتين. وسأورد ما قاله طه حسين في خاتمة الاقتباس منه:
«فلا شك عندي في أنه يجب علينا أن نحتاط كل الاحتياط في استعمال هذا الحكم، أي إباحة تزوج المسلم بالكتابية. ولست أرى عليَّ من بأس إن قلت إنه الآن حرام ممقوت».
في الطبعة الثانية من الجزء الأول عام 1962 حذف محمد محمد حسين استشهاده الثاني بمقال طه حسين عن الضرر الذي ينشأ عن زواج المسلم بالكتابيات من الأوروبيات. ولأنه حذف هذا الاستشهاد الرديف اضطر لأن يحذف الاستشهاد الأساسي في مقال عبد العزيز جاويش، وأن يحذف التمهيد له الذي بدأ بجملة «وقد كان مما استتبعه هذا المنهج...».
السؤال الذي فكّرتُ ملياً في الإجابة عنه: لماذا أبقى على الاستشهاد الأول في مفتتح محاضرة طه حسين، ولم يحذفه مثلما فعل بالاستشهاد الثاني بفقرة من مقاله؟ وللحديث بقية.