زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

بين عزلة إيران وحراك ضفة الخليج الأخرى!

لو كنت إيرانياً واقفاً على ضفة الخليج العربي وتتأمل بهدوء وعمق شديدين ما يحدث في داخل بلدك ثم تشخص بناظريك إلى ما يجري على الضفة الأخرى، حيث دول الخليج بقيادة السعودية، فما الشعور الذي يلفك؟ هذا الشخص يرى بلاده تنهار فيتساءل: لماذا إيران تتدحرج إلى الخلف وتتراجع على الصعد كافة من وضع معيشي مزرٍ وتردي خدمات وانهيار اقتصادي مروع وتفكك مجتمعي متسارع مع غضب شعبي متزايد، ناهيك عن استبداد سلطوي للنظام وقطيعة وعزلة عن العالم؟ ما الذي يجول في خاطره وهو يدرك أن تاريخ بلاده كان له حضور في سجل التاريخ غير أنه اندثر وتمزقت حضارته منذ قدوم الثورة الخمينية؛ كونها لم تستطع أن تخرج من شرنقتها ليتكبد المواطن الإيراني كوارث وأخطاء نظامه السياسي الذي لا يمت بصلة لما يجري في العالم من تحولات ومتغيرات؟ يا ترى إلى أين تأخذه أفكاره وأحاسيسه وهواجسه وهو يرى ظلام المستقبل لبلاده يتجسد أمامه في ظل لغة فوقية تهديدية وأساليب همجية لا تعرف وزناً ولا قيمة لشيء اسمه مواطنة أو حقوق إنسان؟
تساؤلات حارقة بكل تأكيد لكل مواطن إيراني يخشى على مستقبل بلاده وأهله وفيها وضمنها ومنها تكمن كل الإجابات. ليس سراً أن ملف حقوق الإنسان في إيران يعدّ الأسوأ وفق تصنيف المنظمات الحقوقية الدولية. السُّنّة على سبيل المثال يعانون من التهميش والمتابعة الأمنية والملاحقة والاعتقالات والتعذيب، علاوة على عدم تمكينهم من ممارسة العبادة وبناء المساجد، وقد بلغ عددهم أكثر من 20 مليون شخص. وقد شهدنا إلى أي مدى وصل الصلف الإيراني في الأحواز وإقليم بلوشستان؛ ما يعكس حجم التضييق والتكبيل في ملاحقة السُّنّة؛ الأمر الذي دفع مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة إلى متابعة وتغطية الوضع هناك.
لا أتصور أن ما تعيشه إيران من تقوقع وانكفاء وعزلة بسبب عوامل خارجية، بل بطبيعة الحال هو نتيجة لسياساتها وممارساتها وأنشطتها المهدّدة للاستقرار الإقليمي والدولي. الحقيقة، أن إيران تتعامل وفق عقلية الثورة وتهدد جيرانها وتزعزع أمنهم من خلال أطراف محسوبة عليها لخدمة مصالحها ومشروعها، وإشكاليتها سياسية في المقام الأول وإن كان لا خلاف لدينا كشعوب عربية مع الشعب الإيراني.
هي تتدخل في شؤون الدول الأخرى من الزاوية الطائفية ودائماً ما تبحث عن أوراق فاعلة في يدها لاستخدامها للمفاوضة والمساومة مع الغرب. لقد سئمنا من أساليب الردع التي أزعجتنا بها طهران وهي التي تخشى من إسقاط نظامها الذي وُلد عام 1979. اعتادت إيران بارتهانها للتصعيد لكي تصرف الأنظار عمّا يحدث في داخلها من احتجاج شعبي ووضع اقتصادي متردٍ من ناحية ومحاولة تعزيز نفوذها وهيمنتها الإقليمية من ناحية أخرى.
بالمقابل، السعودية كانت وما زالت تمثل لإيران هاجساً سياسياً وعقائدياً، وتقف حاجزاً منيعاً أمام تحقيق طموحاتها (من وصايا الخميني الاستيلاء على الأماكن المقدسة)؛ ما يفسر سبب لجوئها لمختلف السبل من أجل تضييق الخناق عليها لقناعتها بأن مخططها التوسعي لن يتحقق له النجاح في ظل قيام السعودية بدورها المعتدل والمتوازن، وبالتالي لم تجد أمامها سوى اللعب على الوتر الطائفي.
هذا الإنسان الإيراني الواقف على الضفة لا يحتاج إلى قدرات خارقة أو بلّورة سحرية لكي يعرف حقيقة ما الذي يجري في بلاده وما يدور في دول الضفة الأخرى. هو موقن أن روحاً جديدة ونظرة مستقبلية وانفتاحاً لافتاً تعيشه دول الخليج وشعوبها، وهذا يعني أن مسيرة البناء والتنمية والمعرفة تدخل مرحلة متقدمة بين دول الخليج بدليل التركيز على بناء الإنسان... ولعل الأرقام والمؤشرات والمعدلات الدولية أكبر دليل على صحة المقارنة بين دول الخليج وإيران.
المراكز المتقدمة في الكثير من المجالات تجد السعودية والإمارات وغيرها من دول الخليج على رأس القائمة أو في المراتب المتقدمة، في حين أن إيران اكتسحت وبجدارة المواقع الأخيرة أو لا يكون لها حضور البتة في عالم الاقتصاد والمال والتكنولوجيا والذكاء الصناعي والتحول الرقمي وغيرها.
لاحظ مثلاً جولة ولي العهد السعودي لعواصم عربية مهمة قبل أيام جاءت لتعزيز التضامن العربي، وكذلك إعادة الحيوية للعلاقة مع تركيا جارة إيران، فضلاً على استقبال السعودية زعامات وقيادات عالمية في الأسابيع المقبلة وإعدادها لقمم كبيرة ومؤثرة تعني بكل وضوح أن المملكة تسعى لتعزيز الأمن والسلام الدوليين، وأن أقوالها ترتبط بأفعالها في حين أن إيران تعيش عزلة مريرة وعقوبات اقتصادية واختناقاً داخلياً، ومع ذلك ما زالت تمارس أساليبها المعروفة عنها من مماطلة وتسويف وتضليل للمنظمات الدولية.
الشخص المتأمل الواقف على الضفة ما زال مستغرباً: لماذا تمانع بلاده فتح قنوات تعاون وعلاقات تقارب مع دول الجوار؟ أليست هذه المنطقة تجمعنا ونعيش كلنا فيها؟ أليس ما يجمعنا كقواسم مشتركة أكثر مما يفرقنا؟ يشعر بالحرقة لأن الآيديولوجيا خلقت حاجزاً مع الإخوة والجيران. لا بد أنه وصل لقناعة أن دول الخليج تكتل ما زال قائماً رغم ما به من هزات وعواصف وأحداث، وأن لديها إرادة وعزيمة ورغبة في المضي قدماً إلى مستويات أعلى في التعاون والتكامل والتنسيق، وأن وقت الحلم الخليجي الذي ظل في مخيلة شعوبه عقوداً طويلة قد أصبح قريباً وبلدانهم باتت عنواناً للتنمية والمعرفة والتقدم والنهضة والتفرد والتميز. أما بلاده إيران، فإن نفسه تردد أن شعبها يتعرض إلى محن وأزمات ومصائب بوصول زعامات وقيادات تضمر الشر والبغض للأمة العربية. ولعل الشعور المؤلم الذي وخزه وهو يشعر بالخجل والغضب في آن، أن بلاده عاثت واستباحت الأرض العربية وامتصت مقدراتها ودمرت ونهبت وقتلت في كل أرض عربية وصلت إليها. ويبدو أن القصة هنا قد وصلت لنهايتها حيث أوجزت الفارق ما بين ضفتي الخليج.