لم توضع النخب الثقافية على مختلف اختصاصاتها وتوجهاتها في زوايا ضيقة، كما وُضعت فيه منذ إسقاط نظام حزب البعث في العراق وما تلاه بعد ذلك في ليبيا وغيرهما، والتي كانت تعيش في ظل أنظمة شمولية سرعان ما تهاوت بمجرد تدخل أجنبي أحدث تغييراً فوقياً حاداً انعكس بشكل كبير على تلك النخب التي أُصيبت بالذهول والحيرة والإحباط والإحراج إزاء العاصفة التي اكتسحت تلك الأنظمة الفاسدة وزعماءها الذين أذلوا شعوبهم وخدّروهم بشعارات كاذبة، تم تمريرها من خلال أجهزة إعلامهم التي اختزلت الأوطان بأشخاصهم وأحزابهم، واستغلوا حالات الانكسار والهزيمة لدى الكثير من هذه النخب في عنترياتهم التي تكشفت وانفضحت بعد ساعات من انهيار هياكلها السلطوية، خصوصاً أولئك الذين تصوروهم أبطالاً ومحرري شعوب، ناهيك بما فعلته عطايا تلك الأنظمة وكوبونات النفط أو البترودولار أو مجموعة القرارات والقوانين الارتجالية والمهرجانات الأدبية والفكرية والثقافية والعلمية والرياضية، التي كانت تتغنى وتمجّد الرئيس القائد والزعيم العظيم، موظفةً تلك المهرجانات لعرض أفكاره ومنجزاته الخارقة!
وربما لأسباب كثيرة تتعلق بطبيعة مجتمعاتنا ظلّ المثقف حاله حال معظم الناس مرتبطاً بشخص الزعيم والمنقذ والقائد، كونه رمزاً وإرثاً متراكماً في ذاكرته المرتبطة بالقرية والعشيرة، حيث تبدو الصورة النمطية المتوارثة للبطل التاريخي.
وإزاء ذلك كانت هناك أيضاً مجاميع أخرى من المثقفين تضمّها سجون رهيبة، أو هُجّرت أو هاجرت وتحمّلت كل مآسي ذلك الرحيل القسري، لأنها كانت ترفض ولا توافق أو تؤيد ذلك القائد الهمام ونظامه الشمولي، بينما انعزل آخرون إلى زوايا بعيدة عن الأضواء، لدرجة أنهم استبدلوا بمهنهم وإبداعاتهم أشغالاً وأعمالاً أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها، وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!
ولن نتحدث عن كل الذين اكتسحتهم العاصفة، ولكننا نتذكر بألم شديد جموع المثقفين من كل الاختصاصات والاتجاهات في الأدب والفن والفكر والقضاء والرياضة والعلم الذين كانوا يتهافتون إلى الطغاة وغيرهم من القادة في مهرجانات ومناسبات يقدمون فيها خدماتهم، مقابل ما كانوا يحصلون عليه من أجور أو هدايا مجزية نقدية أو عينية، أو آمال في تحقيق أهدافهم وأمنياتهم، حالهم حال أي شاعر من شعراء الخلفاء في تاريخنا، مدحاً وتعظيماً مقابل صرر الذهب والدنانير، أو ربما مقابل الحصول على الأمن والأمان والستر على الحال والأحوال، تلك الأجور والوعود والرشى التي صمّت آذانهم وأعمت أبصارهم عمّا كانت تعاني شعوبهم من آلام وعذاب وقهر، وللإنصاف ليس الجميع كانوا بهذه المواصفات، ففيهم من فعلها خشية تدمير وإبادة وقطع للأرزاق، ومنهم من كان موظفا يؤدي عملاً روتينياً حتى في عمله الإبداعي، ومنهم أيضاً من كان من دون قضية ويعمل كأي موظف روتيني في شركة أو مؤسسة، ورغم ذلك أعتقد جازماً أن هناك من أبت نفوسهم وتسامت، ورفضت التنازل قيد أنملة واحدة عن مبادئها، وارتضت التهميش والملاحقة والاعتقال أو الهجرة والرحيل والاغتراب، وسواء كانت هذه المجاميع قلة أو كثرة، فإنها فعلاً تستحق تسمية المحاربين الأشداء الأنقياء في عزة النفس والسمو واحترام مشاعر الشعوب، يقابلها أيضاً من كان يؤمن ولا يزال بقيادة وأحقية أولئك الطغاة على خلفية ما ورثوه من تراكمات نمطية لأبطال الحكايات كرموز للأمة، حتى بانت عوراتهم وظهرت عيوبهم في أبشع ما يمكن أن يكونوا أمام شعوبهم، فكانت حقاً واحدة من أكثر الأزمات انكساراً، بل أكثرها ذهولاً وإحباطاً أصاب مؤيديهم ومعتنقي أفكارهم ووعاظ مجالسهم ومناسباتهم!
ولعل في تاريخنا القريب مواعظ وعبراً ومواقف تختصر ما نحن فيه وما آل إليه بعض أنظمتنا السياسية ورموزها التي أوهمت الكثير بشعاراتها وتصرفاتها.
قال ميشيل عفلق مرة عن صدام حسين إنه «نعمة من نعم السماء علينا»، ولقد شهدنا فيما بعد مدى تأثير ذلك التوصيف على سلوك كل من صدام، وعن القذافي حدث ولا حرج. وكيف تحول الاثنان إلى ما يشبه التقديس من طوفان المديح الذي كاله مجموعة من المنافقين والانتهازيين ووعاظ السلاطين لهما.
تحدث مرة الفنان السوري الكبير دريد لحام في تبريره لاستقبال القذافي في بيته بالشام، وهو جواب ربما يبرر علاقة كل الفنانين والشعراء والنخب الثقافية الكبيرة بالرؤساء الطغاة الذين سقطوا أو في طريقهم للسقوط: ما تعليقك على الزيارة التي قام بها الزعيم الليبي معمر القذافي لمنزلك؟
فأجاب قائلاً: «الزيارة تمَّت بناءً على طلب رسمي ورغبةً من هذا الرجل في عام 2008 عندما كانت دمشق تستضيف القمة العربية، وبالتأكيد أنني لست نبياً لأعرف عام 2008 أن القذافي سيرتكب ما يرتكب عام 2011 ولم يكن غيري يعرف... الزيارة في المجمل لم تكن سرّية، و(المتنبئون) الذين يعترضون على الزيارة كان يجب أن يعترضوا عليها عام 2008 بما أنهم يعرفون ماذا كان سيجري عام 2011. في عام 2008 كان هو ضيف على البلد، وألقى خطاباً نارياً ظهر فيما بعد أنه يخفي خلفه هذه القسوة».
أما عن العراق ربما أن الكثير ممن شاركوا الرئيس الأسبق صدام حسين في مهرجاناته ومناسباته، لم يكونوا على اطلاع كامل بمجريات الأحداث هنا في العراق، كما أنني أجزم بأن كثيراً ممن كانوا في خيمة العقيد القذافي، كما قال دريد لحام، لم يكونوا يعرفون هذه القسوة في تعامله مع شعبه.
حقاً إنها مواقف محيّرة ومذهلة ومحرجة تُظهر مدى تلاعب تلك الأنظمة ورموزها بمفاتيح اجتماعية أو عاطفية أو وطنية أو مالية، تورط الكثير في الوقوف معهم أو ربما تسيء إليهم، لمجرد هكذا لقاء ومنه الكثير والكثير مع كل أولئك الرؤساء الطغاة، الذين دعوا إلى قصورهم ومناسباتهم ومهرجاناتهم، النخب الثقافية أسوةً بالنخب والزعماء السياسيين وغيرهم، ونتذكر جميعاً المئات من أولئك الذين كنا نراهم في مهرجانات المربد والمتنبي وأبي تمام، وأيام الربيع في الموصل وبابل، ومثلها في ليبيا وسوريا واليمن والكثير من البلدان التي يحتفل رؤساؤها بهكذا مناسبات، ولا أظنني ظالماً إن سألت كم هو عدد المثقفين العرب وغيرهم من كل أجناسهم الأدبية والفنية والثقافية، ممن دعاهم العقيد، أو القائد الضرورة، أو أسد الأمة، وأمثالهم، ورفضوا دعواتهم لأنهم ظالمون ومستبدون، إلا من كفاه الله شرهم وخيرهم!
TT
النخب الثقافية والزوايا الضيقة!؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة